تتثاقل أجندة التاريخ الفلسطيني بالنكبات والهموم, التي لا زالت تثقله يوماً بعد يوم بأشلاء مجزرة هنا وجريمة هناك, ولا زال ذلك التاريخ العجوز يتأوه ويصرخ من شدة الألم وقسوة الحياة ولازالت جراحه العميقة تنزف دماً ولكن دون أي مسعف أو ملبي لدعوة مظلوم.
وقف التاريخ في هذا اليوم التاسع من حزيران, ولكن .. في مكان طالما أحبه الناس وأيقنوا أنه الوحيد الذي يحميهم من أي مكروه وهو الذي أحبهم كما أحبوه إنه "البحر", وقف التاريخ العجوز وقد لفحت قدامه مياه الشاطئ, وقد أطرق رأسه وكأن عينيه أصيبتا بذلك المرض المسمى بـ"نشاف الدموع" بعد أن استهلك دموعه في أحداثه المفجعة, وصاح قائلاً :"هنا كانت تجلس عائلة بأكملها في أمن وأمان, هنا كانت تجلس عليا وإلهام وصابرين وهنادي, وعلى صوت ذلك العجوز موجهاً اتهامه للبحر :"أنت السبب أيها البحر, لأنك عودتهم على أن يجدوا فيك الأمن والأمان والصفاء والرخاء, ولكنك لم تكن أهلاً لذلك". فصمت البحر وقد بدا حزيناً على هذا الاتهام, ولم يستطع الرد على التاريخ العجوز, وإذا بصوت طفلة قادمة من بعيد تقترب وقد ظهر أنها تصطحب معها ما تبقى من عائلتها المنكوبة وقد ظهرت عليهم آثار جريمة إسرائيلية ارتكبت في نفس المكان وصرخت تلك الطفلة وقالت "لااااااااااااا .. لا تحزن أيها البحر, فأنت ليس لك ذنب", عاد البحر ليسدل مياه على الشاطئ كما كان وقد هلل فرحاً بما سمع لأنه يعرف هذه الطفلة تماماً, ولكن التاريخ العجوز وقف حائراً وقد نهر تلك الطفلة البريئة وقال لها من أنت؟, وما دخلك في الأمر؟, فردت وقد ارتسمت على وجهها خطوط الألم العميق وبصوت هادئ "أنا هدى غالية.." حينها بكى العجوز,, ووطأ يقبل يد الطفلة "هدى" وهو لازال يعتذر لها عما صدر منه, ويقول لها اعذريني يا صغيرتي, فردت هدى بكل براءة وهدوء لا عليك يا سيدي أيها التاريخ,, سأروي أنا عما في ذاكرتي في مجزرة فقدت بها أعز أحبابي, رغم أنني أعلم علم اليقين أنك قد سجلت كل لحظة بلحظة لما حدث,, ابتسم التاريخ العجوز في وجه هدى وجلست وجلس, وهدئ البحر من حدة موجه, وصمت الجميع وبدأت الطفلة "هدى" في سرد الحكاية.
قذيفة قتلت الأحلام
:"كنا نلعب أنا وأخواتي ونسبح في البحر, وكان نتراشق بالميه, وكان أبي وأخي وزوج أختي يلعبون "الشدة", ويشربون الشاي ويأكلون الذرة, وبكل براءة ارتسمت على وجهها الصغيرة تابعت :"كنا مبسوطين كتير في هذه الرحلة خاصة أنها كانت الأولى في ذاك الصيف, إلا أن الزوارق الإسرائيلية لم يعجبها هذا الانبساط والسرور فقتلت أبي وأخواتي".
تأثر التاريخ العجوز بما قالت "هدى" وردد "حسبنا الله ونعم الوكيل", وتابعت هدى وقد بدا عليها التعب والإرهاق, لاسيما أنها لم تتجاوز الثالثة عشر من عمرها, وقد حملت كل تلك الهموم والآلام, لم تدري ماذا تفعل, فالتفت عن يمينها وعن شمالها, وعاودت حديثها :"أطلق اليهود علينا قذيفة وقعت بجانبنا, بسرعة نادى أبي علينا وقال اهربوا, وفي تلك اللحظة أطلقوا قذيفة أخرى أيضا وقعت بجانبنا من الجهة الشمالية, وقد ازداد صراخ أبي علينا أن اهربوا جهة الإسفلت لمكان السيارة التي ستنقلنا إلى البيت, وفجأة ضربوا القذيفة الثالثة, عندها صمت الجميع وصمتت أنا معهم من هول ما أصابهم وأصابني فقد قتلوا جميعاً وتحولوا إلى أشلاء وأما أنا فأنظر إليهم ولازلت مصدومة من هول ما حدث".
أوقفت "هدى" حديثها, واغرورقت عيناها بالدموع, واحمرت وجنتيها, فنظر إليها التاريخ العجوز, وقد مسح بيده المثقلتين بالهم دموعها, وفجأة رفعت صوتها قائلةً :"شو ذنبنا إحنا؟ شو ذنبنا؟, لماذا قتلوا أهلي؟, لماذا قتلوا أخواتي؟, لماذا قتلوا أبي؟؟؟,, صمت الجميع وصمتت معهم دموع "هدى" وسرحت وهي تحاول أن تستعيد شريط ذكريات ما كان قبل وقوع المجزرة الإسرائيلية, وقالت بلهجتها العامية الطفولية :"أبويا كان يحبني كثير, وفي شهر رمضان كنا نقعد مع بعض في وقت الإفطار وكان أبويا دايما في رمضان يقول الصايمين على جهة والمفطرين على جهة, وكان يمزح معي ويعدني مع المفطرين".
الأب الحنون
وصمتت "هدى"هنيهة وقد شقت دمعتين لامعتين طريقهما على خديها, وتابعت :"كل شيء كنت أطلبه من أبويا كان بجبلي إياه, ولكن الآن أيهم أخي يحل محل أبويا ولكنه لن يكون مثله".
مر عام كامل على تلك المجزرة التي ارتكبت بحق عائلة غالية, ولازالت هدى تعيش اليوم كأنه الأمس, وتحدثت وقد رسمت الآلام المجزرة خطوط الهم والوجع على وجهها صاحب الإثنى عشر ربيعاً وأصبح وكأنه أكبر من ذلك بكثير, :"هذه السنة مرت عليا وكأنني أعيش في حلم, تخيل أنني فقدت أهلي وبقيت أمي وهي مصابة بيدها, وفقدت جميع أخواتي, وفقدت معهم الحب والحنان والفرح والسعادة".
سكتت "هدى" وكأنها لا تريد أن تقول أكثر من ذلك, ولكن يبدو أن الذي بداخلها أكثر من الذي قالته بكثير, وهنا تحدث التاريخ العجوز سائلاً "هدى" وماذا عن البحر يا صغيرتي, هل لك عنده شيء؟؟ ابتسمت "هدى" وهي تقول :"البحر ليس له ذنب؟؟ فأنا أحبه كثيرا, رغم أنني فقدت أهلي على شطه, وسأبقى أحبه أكثر وأكثر, لأنهم جرحوه كما جرحوني واحتلوه كما احتلوه أرضي", ابتسم البحر ابتسامة عريضة وقال "لن أنسى لك هذه الكلمات يا عزيزتي, فأنا وأنت حزينان, وأنا وأنت مجروحان".
ذكرى احتضان الأحبة
أدار التاريخ العجوز وجهه ليرى من هم الذين كانت تصطحبهم هدى عندما جاءت, وتفقدهم فإذا بهم كلهم قد أصابتهم لعنة صواريخ مجزرة عائلتهم, ونظر إلى امرأة قد بان عليها ألم فراق الأحبة والإصابة معاً وكأنه يعرفها جيداً, إنها "أم أيهم" ووالدة هدى, لم تتحدث أم أيهم فور صمت الجميع ولكنها اكتفت بدمعتين محبوستين في عيناها, وتمتمت بشفتيها كأنها تريد أن تحكي عما يدور بداخلها, وبدأت :"إحنا عائلة بسيطة, وطوال حياتي لم أتوقع أن تحدث لنا مثل هذه المصيبة الكبيرة، قبل ما نذهب إلى البحر كان اليهود يقصف المنطقة المحيطة بنا وكانت شظايا القذائف تسقط على بيتنا وبالقرب منا ونحن في المنزل، كنا نتوقع أن يصاب أحدنا, وخرجنا من المنزل إلى البحر لأنه بالنسبة لنا منطقة آمنة ومنفذ وحيد لنا من قذائف ورصاص الاحتلال".
وبعزيمة قوية وبإرادة المضحي من أجل وطنه, رفعت "أم أيهم" رأسها وقالت :"لم نكن في يوم من الأيام إرهابيين، نحن أصحاب حق ولم نفعل شيء كنا جالسين ومسالمين".
ولكن وقع المجزرة وآلامها كانت أكبر من ذلك, وانحدرت دمعة كانت متعلقة بعينها على وجنتها وهي تستذكر بناتها وأولادها في تلك المجزرة وهي تقول :"لقد فقدت أعز بناتي, لقد فقد عليا "24 عام"، والهام "15 عام" ، وصابرين "5 سنوات"، وهنادي "سنة وشهرين", بالإضافة إلى خالتهم وابنها هيثم البالغ "4 شهور", آآآآآه كم هي صعبة لحظة الفراق, ولكن قدر الله.
في هذه اللحظة احتضنت "أم أيهم" ما تبقى لها من أطفال, والبحر والتاريخ العجوز ينظران إلى هذه الأحضان بترقب, احتضنت "هدى" و "هديل", وهي لا زالت تستذكر تلك الأحضان لهنادي وصابرين, وقالت والألم يصارع صبرها وهي تستذكر سيرة كل بنت من بناتها :"صابرين كانت عنيدة وقوية ومجتهدة، وكانت لما مرت جنازة شهيد تقول "أجت فرحتي"، وإحنا رايحين إلى البحر وقبل ما ننزل من السيارة قالت لي ما أحلى رائحة البحر يا ماما".
وعن علياء :" علياء.. كانت حنونة وطيبة جدا وكل الصغار يحبونها، وكانت تدرس محاسبة، وكانت تنفق كل ما لديها في مساعدة والدها عندما كانت تتقاضى البطالة، حيث كانت تريد أن تساعد أيهم في تكاليف زواجه".
وتتابع والألم يعتصر قلبها حزنا على فراقهم وفراق أحبتها, :"إلهام..كانت طيبة ومميزة وكانت تعمل كل عمل البيت، رغم أنها كانت كفيفة, وأما عن هنادي.. فكانت من أجمل بناتي وأول كلمة كانت تنطق بها هي "يا رب" قبل بابا وماما، وكانت متعلقة بوالدها وعلياء".
صمتت "أم أيهم", وكأنها نسيت شيء, ولم تستطع أن تخفيه فتحركت شفتاها بسرعة :"زوجي أبو أيهم كان مزارعاً حنونا بسيطاً, وزوجته الثانية رئيسة عشت معها أكثر من 15 سنة ولم نتشاجر في مرة".
ألم وأمل
نظر التاريخ العجوز إلى الجانب الآخر لـ"هدى", وقد أصابه المشهد بالألم, إنها "أماني" الأخت البكر لهدى وهي متزوجة وقد كانت يدها مبتورة جراء الهجمة الإسرائيلية على عائلتها, ولكن عيناها يحدوهما أمل في متابعة الحياة بفقد الأحبة وفقد الذراع, نظرات التاريخ إلى أماني كانت تستنهض فيها أن تقول شيئا مما بداخلها, فانتبهت وأدارت وجهها إلى البحر وهي تقول :"هذا قدرنا وقدر كل فلسطيني عايش في هالأرض, وشو بدنا نعمل غير إنا نحتسب أمرنا لله, ورددت وهي تحاول أن ترفع يديها إلى السماء "حسبنا الله ونعم الوكيل".
ولفت انتباه التاريخ إلى رجل قد بان عليه الصبر المعجون بالهم, وهو زوج أماني, والذي لم يصب بأذى في تلك الحادثة مع أنه كان بجوار عمه لحظة وقوع الحادث , وهو يقول :"العالم لا يسمع, وهو يعرف أننا مظلومين ولكنه يريد أن يبرئ الاحتلال من إجرامه, ويقول نحن مللنا من المناشدات والرسائل", وسانده التاريخ العجوز قائلاً :"نعم ..إن هذه المناشدات لا تساوي الحبر التي تكب فيه".
بعدها وقف الجميع من مكانه واستعدوا للرحيل من المكان, وبعد أن قرئوا الفاتحة على أرواح الشهداء صمتوا قليلاً, وإذا بالبحر يلفح أرجلهم كأنه يقول لهم توقفوا قليلاً, وفعلاً توقف الجميع, وسألهم بنبرة حزينة,, :"هل ستنسونني بعد اليوم.. فلم يجبه أحد,, وتابع أنا مظلوم فالاحتلال جرحني كما جرحك يا هدى, وقتلني كما قتل أهلك, واحتلني كما احتل أرضكم وسمائكم, فأرجوكم لا تتركوني, فأنا وأنت يا سيدي التاريخ مرتبطان, فإن تركتني فلن أتركك", وصمت البحر في انتظار الجواب.. أعادت هدى كلمتها التي قالتها :"أنت ليس لك ذنب أيها البحر, وأنا لن أنساك وسأزورك في كل رحلة, وقاطعها التاريخ العجوز :"لا يمكن أن ننساك أيها البحر وستبقى كما عهدناك ولن نغير فيك ظننا".