المسرح العربي
1. نشأة المسرح العربي
عرف العرب والشعوب الإسلامية عامة أشكالاً مختلفة من المسرح ومن النشاط المسرحي لقرون طويلة قبل منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.
وبالمرور على العادات الاجتماعية والدينية التي عرفها العرب في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، والتي لم تتطور إلى فن مسرحي، كما حدث في أجزاء أخرى من العالم، تظهر إشارات واضحة على أن المسلمين أيام الخلافة العباسية قد عرفوا شكلاً واحداً على الأقل من الأشكال المسرحية المعترف بها وهو: مسرح "خيال الظل" الذي كان معروفا في ذلك العصر وكان يعتمد على الهزل والسخرية والإضحاك.
وقد كان الخليفة "المتوكل" أول من أدخل الألعاب والمسليات والموسيقي والرقص إلى البلاط، ومن ثم أصبحت قصور الخلفاء مكاناً للتجمع والتبادل الثقافي مع البلدان الأجنبية، وكانت البدايات الأولى في صورة ممثلين يأتون من الشرقين الأدنى والأقصى ليقدموا تمثيلياتهم في قصور الخلفاء. هذا الجانب يخص صفوة القوم في تلك الحقبة من الزمن، أما فيما يخص العامة من الناس فكانوا يجدون تسليتهم المحببة عند قصاصين منتشرين في طرق بغداد، يقصون عليهم نوادر الأخبار وغرائبها. وكان هناك كثير من المضحكين الذين تفننوا في طرق الهزل، يخلطونه بتقليد لهجات النازلين ببغداد من الأعراب والخرسانيين والزنوج والفرس والهنود والروم، أو يحاكون العميان. وقد يحاكون الحمير، ومن أشهر هؤلاء في العصر المعتضد: "ابن المغازلي".
لم تتوقف العروض التمثيلية منذ أيام العباسيين، ففي مصر الفاطمية والمملوكية ظل تيار من العروض التمثيلية مستمراً وظلت المواكب السلطانية والشعبية قائمة لتسلية الناس وإمتاعهم. يقول المقريزي في وصف أحد هذه الاحتفالات: "وطاف أهل الأسواق وعملوا فيه "عيد النيروز" وخرجوا إلى القاهرة بلعبهم ولعبوا ثلاثة أيام، أظهروا فيها السماجات الممثلين وقطعهم التمثيلية".
وقد نظر أهل الرأي والفقهاء وبعض الخلفاء والسلاطين إلى هذه العروض التي استمرت قروناً طويلة على أنها لهو فارغ وأحيانا محرم، وأحيانا أخرى يستمتعون بها هم أنفسهم.
ثم عرف العرب أيام العباسيين فن "خيال الظل" وهو فن مسرحي لا شك فيه. وقد كان أرقي ما كان يعرض على العامة والخاصة من فنون إلى جوار أنه مسرح في الشكل والمضمون معاً، لا يفصله عن المسرح المعروف إلا أن التمثيل فيه كان يجري بالوساطة عن طريق الصور يحركها اللاعبون ويتكلمون ويقفون ويرقصون ويحاورون ويتعاركون ويتصالحون نيابة عنها جميعاً.
قطع مسرح خيال الظل شوطاً طويلاً نحو النضج الحقيقي حين انتهى إلى يدي الفنان والشاعر الماجن "محمد جمال الدين بن دانيال" الذي ترك العراق إلى مصر أيام سلاطين المماليك. وقد قال ابن دانيال وهو يصف ما قدمه في باب "طيف الخيال" من فن ظلي ممتاز: "صنفت من بابات المجون، ما إذا رسمت شخوصه، وبوبت مقصوصه، وخلوت بالجمع، وجلوت الستارة بالشمع، رأيته بديع المثال، يفوق بالحقيقة ذاك الخيال".
هذه العبارة التي أطلقها هذا الفنان الأول تحوي أسساً فنية واضحة، تشهد بأن فن ابن دانيال، خيال الظل، قد استطاع أن يرسي في مصر المملوكية، أي قبل حوالي ستة قرون من نشأة المسرح العربي المعاصر، فكرة المسرح مع ما يخدم هذه الفكرة من عناصر فنية وبشرية مختلفة. وقد ضمنت هذه العبارة التي تحوي إرشادات مسرحية تدخل في باب النظرية والتطبيق العملي معاً ضمن رسالة وجهها ابن دانيال إلى صديق له اسمه "علي بن مولاهم".
يقول ابن دانيال: "هَيء الشخوص ورتبها واجل ستارة المسرح بالشمع، ثم اعرض عملك على الجمهور وقد أعددته نفسياً لتقبل عملك، بثثت فيه روح الانتماء إلى العرض، وجعلته يشعر بأنه في خلوة معك. فإذا فعلت هذا فستجد نتيجة خاطرك حقاً، ستجد العرض الظلي وقد استوي أمامك بديع المثال يفوق بالحقيقة المنبعثة من واقع التجسيد ما كنت قد تخيلته له قبل التنفيذ".
وفي هذا القول الذي يُعد بداية البدايات للمسرح العربي يجتمع التطبيق العملي والنظرية الفنية معاً: الشخوص وتبويبها وطلاء الستارة في جانب التطبيق، وفكرة الاختلاء بالجمهور وخلق مشاعر الانتماء إلى العرض في جانب النظرية، مضافاً إلى هذه النقطة الأخيرة هذا المبدأ الفني المهم وهو: أن التجسيد وحده هو حقيقة العمل المسرحي، وأن جمال المسرح يتركز في العرض أمام الناس وليس في تخيل هذا العرض على نحو من الأنحاء في الذهن مثلاً، أو بالقراءة في كتاب.
وتعدّ اللحظة التي كتب فيها ابن دانيال هذه العبارة حاسمة في تاريخ المسرح العربي عامة، وفي تاريخ الكوميديا الشعبية بصفة خاصة.
في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي حدث الصدام بين العرب والحضارة الأوروبية، وارتفعت ستائر مسرح مارون نقاش في بيروت ذات يوم من عام 1847م لتعرض مسرحية "البخيل"، المستوحاة من قصة موليير لتبدأ أولي خطوات المسرح العربي الحديث. وسارت الأعمال الدرامية العربية بعد ذلك في ثلاثة مسارات رئيسة هي الترجمة، والاقتباس، والمسرحيات المؤلفة.
كانت معظم المسرحيات المترجمة منذ باكورة أيام المسرح العربي، وحتى قيام الحرب العالمية الأولى، تكيف وفقاً لأمزجة المتفرجين. على أن تغيير "الحبكة" لتناسب ما هو معروف من الظروف التي تحيط برواد المسرح لم يكن شائعاً في الأيام الأولى للمسارح الأخرى، ومن ذلك المسرح في رومانيا.
في مصر يعد "محمد عثمان جلال" واحداً من أخصب المقتبسين الموهوبين حقا. وكان جلال، وهو ابن موظف بسيط من سلالة تركية، قد اقترن بزوجة مصرية وكان على دراية طيبة جداً باللغتين الفرنسية والتركية، إلى حد أنه التحق بقلم الترجمة في الحكومة المصرية، ليعمل مترجماً، وهو لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره. وقد كرس حياته كلها للاقتباس من المسرحيات الفرنسية إلى العربية، فترجم مسرحيات عديدة عن موليير وراسين ولافونتين مثل: مدرسة الأزواج، ومدرسة النساء، الحزين، والنساء العالمات، وغيرها كثيراً.
في لبنان ظهر الكاتب المسرحي "نجيب الحداد" 1867 - 1899م، الذي لم يكن أقل شهرة من جلال، والحداد ولد في بيروت وهو سليل أسرة اليازجي المعروفة بمساهمتها في الأدب، بما في ذلك تأليف المسرحيات. وقد كانت ترجمات الحداد أمينة ولم تكن اقتباساً، فلم يكن يغير في النص تغييرات كبيرة باستثناء أن بعض المسرحيات كانت تحمل أسماء عربية. فمثلا في ترجمة الحداد لـ "هرناني Hernani" أصبح "دون كارلوس Don Carlos" "عبد الرحمن" و"هرناني" تحول إلى "حمدان"، و"دوناسول" نوديت بشمس وهكذا.
ومن المحتمل أن تكون أول أعمال الحداد ترجمته نثراً وشعراً لمسرحية "فولتير" "أوديب" أو "السر الهائل" The frightful secret كما ترجمها حرفياً.
لم تلبث الترجمة أن حلت محل الاقتباس الذي ظل شائعاً منذ أيام مارون النقاش إلى أيام محمد عثمان جلال. على أن السبب في اختفاء منهج الاقتباس من المسرح العربي الذي كان "جلال" داعيته وكذلك منهج التكييف في بعض ترجمات الحداد، لا يرجع فقط إلى ارتفاع المستوى الثقافي عند المتفرجين، ولكنه، باتفاق الآراء، يؤول إلى حقيقة أن المسرح العربي قد اندرج إلى أقسامه الثلاثة الكلاسيكي، والموسيقـي، والشعبي.
ثم بدأت بعد ذلك المسرحيات العربية الأصلية أو "المؤلفة" تحت ثمانية أنماط متميزة:
الفارس - المسرحيات التاريخية - الميلودراما - الدراما - التراجيديا - الكوميديا - المسرحيات السياسية - المسرحيات الرمزية.
2. التراث
عرف العرب الأوائل "الرواة"،الذين يحكي التراث الكثير عنهم بوصفهم فنانين مسرحيين لا شك فيهم، فنانين من طراز ممتاز، فلا أحد يكتب لهم شيئاً، وإنما تلتقط عيونهم الحادة خصائص البشر وعيوبهم، فيجمعون هذه الخصائص والعيوب في شخصية كلية أو مركبة، كما يقول النقد الحديث، ويجعلون منها مادة للفكاهة التي تسر عامة الناس وخاصتهم.
ويحمل التراث بيان أصدره الخليفة المعتمد يحظر فيه نشاط هؤلاء الفنانين، مما يبرهن على أنهم قد كثروا كثرة مفرطة على عهده، وأنهم كانوا يتخذون من المسجد والجامع مقراً لهم يحكون فيه الحكايات بهذه الطريقة التمثيلية الواضحة.
وقد حفظ الجاحظ، بعينه الخبيرة، صورة دقيقة لفن هؤلاء الرواة، أو الممثلين في الواقع، ممثلين فوريين يتخذون مادتهم من الواقع مباشرة، وهو فن قريب الشبه من فن الارتجال المسرحي الحديث. قال الجاحظ: "إنا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم، لا يغادر من ذلك شيئا. وكذلك تكون حكايته للخراساني والأهوازي والزنجي والسندي والأحباش وغير ذلك. نعم حتى تجده كأنه أطبع منهم، وتجده يحكي الأعمى بصور ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه لا تكاد تجد في ألف أعمي واحداً يجمع ذلك كله، فكأنه قد جمع جميع طرف حركات العميان في أعمى واحد ".
كذلك كان الشعب العربي في الجزيرة العربية واليمن والعراق ومصر يتسلى في تلك الأوقات البعيدة بفن القراد والحواء، كما لا يزال يفعل حتى يومنا هذا في بعض شوارع المدن العربية وبلدانها وقراها وأسواقها وموالدها. وكان الخليفة المتوكل يكن وداً خاصاً للممثلين وأصحاب المساخر والملاعب المضحكة عامة. فما من مناسبة اجتماعية مرت به إلا ودعاهم للعب أمامه. ولما انتهى من بناء قصره "الجعفري"، استدعى أصحاب الملاهي ومنحهم بعد الحفل مليونين من الدراهم، ويعد الخليفة المتوكل من أوائل من اشتغلوا بالإخراج المسرحي إذ ذات مرة شرب فيها في قصره المسمي "البركوار"، فقال لندمائه: "أريد أن أقيم احتفالاً بالورد، ولم يكن ذلك أوانها. فقالوا له: ليست هذه أيام ورد، ولكن الخليفة الفنان لم يقف حائراً أمام هذه العقبة، فأمر بسك خمسة ملايين درهم من الوزن الخفيف وطلب أن تصبغ بالألوان: الأسود والأصفر والأحمر، وأن يترك بعضها على لونه الأصلي، ثم انتظر حتى كان يوم فيه ريح فأمر أن تنصب قبة لها أربعون باباً، فجلس فيها والندماء حوله، وأمر المتوكل إذ ذاك بنثر الدراهم كما ينثر الورد، فكانت الريح تحملها لخفتها، فتتطاير في الهواء كما يتطاير الورد. وبهذا كان للخليفة الفنان والمخرج المسرحي ما أراد. وكان المتوكل إلى جانب هذا التوجه إلى فنون العرض المسرحية يكن وداً خاصاً لجماعة الممثلين الهزليين "السمّاجة"، وذات يوم دخل عليه اسحق بن إبراهيم فوجد هؤلاء الممثلين وقد قربوا منه للقط دراهمهم التي تنثر عليهم، وجذبوا ذيل المتوكل. فلما رأى إسحق ذلك، ولى مغضباً وهو يتمتم "فما تغني حراستنا المملكة مع هذا التضييع". ورآه المتوكل وقد ولى فقال لحراسه: ويلكم، ردوا أبا الحسين، فقد خرج مغضباً، فردوه حتى وصل إلى المتوكل. فقال ما أغضبك؟ ولما خرجت ؟ فقال: يا أمير المؤمنين عساك تتوهم أن هذا الملك ليس له من الأعداء مثل ما له من الأولياء ! تجلس في مجلس يبتذلك فيه مثل هؤلاء الكلاب تجاذبوا ذيلك، وكل واحد منهم متنكر بصورة منكرة، فما يؤمن أن يكون فيهم عدو له نية فاسدة وطوية رديئة، فيثبت بك. فقال المتوكل: يا أبا الحسين لا تغضب، فالله لا تراني على مثلها أبداً. وبني للمتوكل بعد ذلك مجلس مشرف ينظر منه إلى السمّاجة "الممثلين". وهكذا لم يتخل المتوكل عن حبه لتمثيل السّمّاجة، وإنما صنع لنفسه مقصورة يرى منها العرض عن بعد. أي أنه بنى مسرحاً بدائياً. ممثلوه السماجة والمتفرج الوحيد المتوكل ليعتبر هذا المسرح أول بداية لبناء مسرح عربي تطور بعد ذلك للشكل المتعارف عليه.
ويحمل التراث العربي الكثير عن بدايات أصبحت فيما بعد ذلك نواة المسرح العربي الذي لم يكن له أن يولد قبل مولد هذه المحاولات التي احتاجت مئات السنين لتصبح مسرحاَ عربياً صريحاً. فمن جماعة الممثلين الهزليين الأولين والذين كان يطلق عليهم اسم السمّاجة، بتشديد الميم، الذين كانوا يحاكون حركات بعض الناس ويمثلونهم في مظاهر مضحكة إيناساً للناس، ووصولاً إلى الممثل المسرحي المعاصر على مسارح الوطن العربي، كان الطريق طويلاً وشاقاً.
يحمل التراث العربي كثيراً من الصور المسرحية، فكثير من الاحتفالات والمناسبات الرسمية كانت تخرج إخراجاً مسرحياً متقناً، حتى أن جلوس الخليفة على عرشه كان في حد ذاته حفلاً حافلاً بالألوان والأضواء والحركة المرتبة من قبل، إذ يجلس على كرسي مرتفع في عرش من الحرير، وعلي رأسه عمامة سوداء، ويتقلد سيفاً، ويلبس خفاً أحمر، ويضع بين يديه مصحف، ويقف الغلمان والخدم من خلفه وحوله متقلدين السيوف، وفي أيديهم بعض أسلحة الحروب، وتمد أمامه ستارة، إذا دخل الناس رفعت وإذا أريد مدت، ويرتب في الدار قريباً من المجلس خدم بأيديهم قس البندق يرمون بها الغربان والطيور لئلا ينعب ناعب أو يصوّت مصوّت.
فهذا منظر مسرحي كامل لا شك فيه لم تغب عنه حتى الستارة، التي ترفع إذا بدأ المشهد بدخول الناس، وتمد أمامه مؤذنة بانتهاء اللعب، إذا ما شاء المخرج والممثل الأول في المشهد، بل أن ذات مرة جرؤ واحد من الندماء في بلاط المتوكل اسمه "أبو العنبس الصيمري" على أن يقدم أمام الخليفة مشهداً فكاهياً قلّد فيه إنشاد الشاعر البحتري تقليداً مضحكاً، ولم يعترض الخليفة على هذا الهزء من شاعر مجيد كالبحتري. بل كان الظن أنه هشّ له وبشّ، على أن تمام التحام فنون الأداء قد جاء في ميداني الغناء والموسيقى وما لحق بهما من رقص.
بل كانت هناك نظرة رفيعة ينظر بها إلى هذه الفنون في عصر الخلفاء العباسيين وخاصة على عهد المتوكل، إذ كانت زوجة الخليفة المتوكل نفسه "فريدة" تتقن الغناء. وبدأ انتشار الغناء الذي دفع إلى قيام ما يشبه دور المسارح الغنائية في عصرنا الحالي باستثناء غياب عنصر الاتجار الفني عنها.
أما الدُّور التي لا شك في أنها كانت ملاهي تجارية بالمعنى العصري فهي الحانات التي كان يقصدها أفراد من الطبقة الوسطي بينهم الشعراء، وفيها يدور الشراب ويسمع الغناء ويجري الرقص في غيبة من القانون أو بإغماض للطرف منه.
استمرت هذه الفنون المختلفة ولكن ظهر فن هو أقرب ما يكون للفن المسرحي ويعد البدايات الحقيقية للمسرح العربي، هو "مسرح الظل" الذي عرفه العرب أيام العباسيين، وهو أول لون من ألوان العروض يرتبط بالأدب العربي. وقد قام المسرح الظلي على بعض الأسس النظرية الفنية على يد ابن دانيال وهي:
"مسرح شعبي بالجمهور وللجمهور، وفن منوع يمزج الحقيقة بالخيال، والجد بالهزل، ويعتمد على أوسع قدر من مشاركة الناس فيه، بالمال والحضور والاستمتاع".
ثم يقدم ابن دانيال مادة مسرحية حقيقية بعد هذا. يخوض بحور الكلام وأكداس العبارات وينتقي منها جميعاً جواهر فنية، ويبتكر بعضاً من الشخصيات المسرحية الشعبية التي لا تزال موجودة حتى الآن: أمثال أم رشيد الخاطبة، والقوادة، والكاتب القبطي المدلس، والشاعر المزيف المتعاجب بالألفاظ الجوفاء، والطبيب الدجال الذي يرى الكسب أهم بكثير من أرواح ضحاياه، كل هؤلاء نجدهم في بابة "طيف الخيال". أما في البابة الثانية التي أبدعها ابن دانيال واسمها "عجيب وغريب"، فإن الهدف الرئيس هو إمتاع الجمهور وبهره بمناظر وشخصيات منتقاة من السوق: الواعظ والحاوي، وبائع الأعشاب "الشربة العجيبة كما يقال اليوم" والمشعوذ والمنجّم، والقرّاد ومدرّب الأفيال، والراقص والعبد الأسود الذي يجمع بين البهلوان والمغني، الخ.
كل هذه الشخصيات كان ينتزعها ابن دانيال من واقع السوق ويجعل لها وجوداً فنياً على المسرح عن طريق المقصوصات، أي عن طريق رسمها على الجلد وإحالتها إلى دمي ذات بعدين يحركها اللاعب المؤدي من وراء ستار.
إن نظرة ابن دانيال إلى فنه، وهي نظرة جادة من وراء الهزل، تجعله يضفي على مقصوصاته هذه الحياة الإضافية، التي تضيف إلى الدمي بعداً ثالثاً، وتكاد تجعلها شخصيات إنسانية حقيقية تتحرك على المسرح.
كل هذا يشهد بأن العرب قد عرفوا دراما كاملة، ذات نظرية وممارسة عملية واضحتين وذات صلات ليست أقل وضوحاً بالجسم العام للدراما. وما قدم عربياً لا يعد مسرحاً حقيقياً بما قدمه من أمثلة تطبيقية لفن المسرح فحسب، بل وبما زرع من تقاليد مسرحية غرست فكرة المسرح في نفوس الناس وحفظتها من الضياع، إلى أن جاء الوقت الذي عرف فيه العرب المحدثون المسرح البشري نقلاً عن أوروبا.
وعن طريق "خيال الظل" عرف المصريون لقرون متوالية، عادة الذهاب إلى المسرح بما في هذا من مقومات مادية واضحة: الإضاءة، والألوان، والأزياء، والحوار، وفنون الأداء المختلفة من رقص وغناء وموسيقى، ثم قصة مسرحية من نوع آخر تعتمد على نوع من الحوار.
والنتيجة العميقة لهذا كله أن مصر العربية كانت مهيأة أكثر من غيرها من البلاد العربية المجاورة لتقبل فكرة المسرح عامة، والمسرح البشري بصفة خاصة حين أخذت الفرق المسرحية والأفكار المسرحية ذاتها ترد إلى المنطقة العربية ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.
3. المسرح الشعبي البشري
جاءت أقدم إشارة إلى وجود فن مسرحي يؤديه البشر في أحد البلاد العربية "مصر" في كتاب الرحالة "كارستين نيبور" الذي وصل إلى الإسكندرية في 26 سبتمبر1761م، ومكث في مصر سنوات طويلة يختلط بسكانها بين مصريين وأوربيين.
وصف "نيبور" عروض الشوارع وصفاً دقيقاً. أشار أولاً إلى فن الغوازي، وذكر أنهن يعملن لقاء أجر، ثم انتقل نيبور إلى فن الأراجوز وفن خيال الظل، وأخيراً يرد ذكر فن المسرح حيث كان بمصر عدد كبير من الممثلين ما بين مسلمين ونصارى ويهود، ينم مظهرهم عن فقر شديد، وهم يمثلون أينما يدعون، لقاء أجر قليل، ويعرضون فنهم في العراء، في فناء منزل يصبح آنذاك مسرحهم، ويسحبون على أنفسهم ساتراً يبدلون وراءه ملابسهم إلى ملابس التمثيل، في أمن من الأعين.
في عام 1815م قدمت فرقة شعبية مصرية مسرحيتين في حفل أقيم في منطقة شبرا، وتعد هذه المحاولة من أوائل محاولات المسرح الشعبي بالوطن العربي. كان الحفل قد بدأ بالموسيقي والرقص التقليديين ثم قام جمع من الفنانين بتمثيل المسرحية الأولى التي تدور حول رجل يريد أن يؤدي فريضة الحج، فيذهب إلى راعي إبل ويطلب إليه أن يحصل له على جمل مناسب يركبه إلى مكة، ويقرر الجمال أن يغش الحاج المنتظر، فيحول بينه وبين رؤية صاحب الجمل الذي قرر أن يبيعه له، ومن ثم يطلب في الجمل مبلغاً أكبر مما طلب صاحبه، بينما يعطي صاحب الجمل مبلغاً أقل بكثير مما دفع الشاري، ويحتفظ بالفارق لنفسه. ثم يدخل جمل مكون من رجلين تغطيا بالكسوة التقليدية، وظهرا كما لو كانا جملاً حقيقياً على أهبة الاستعداد للرحيل إلى مكة. ويركب الحاج الجمل فيكتشف أنه ضعيف، قليل الهمة، فيرفض أن يقبله ويطلب أن تعاد إليه نقوده، وينشب بين الحاج والجمّال نزاع، ثم يتصادف أن يدخل صاحب الجمل، فيتبين هو والشاري أن الجمّال لم يكتف بخداع الاثنين فيما يخص الثمن، بل أنه احتفظ لنفسه بالجمل الأصلي وأعطى الشاري جملاً حقير الشأن. وتنتهي المسرحية بهرب الجمّال بعد أن أخذ حظه من الضرب المبرح.
هذا النموذج المسرحي الشعبي يوضح أنه كان هناك طوال القرن التاسع عشر الميلادي على الأقل دراما محلية تماماً، خالية من المؤثرات الأجنبية التي أخذت تتعامل مع فن التمثيل في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر الميلادي، وما لبثت أن أثرت تأثيراً بارزاً في حرفية هذا التمثيل، مما بدا واضحاً منذ قيام مسرح يعقوب صنوع في لبنان حتى الآن.
كما أن النموذج السابق يعدّ كوميديا انتقادية تنتزع موضوعها من الواقع الحي المحيط بالممثلين والنظارة، وترضي جمهورها بالإمتاع والنصح معاً، على عادة الفن الشعبي. وهي تحوي شيئاً من التركيب الفني يتمثل في الظهور المفاجئ لصاحب الجمل، والانكشاف المزدوج الذي يتعرض له الجمّال، وهو انكشاف يشير بدوره إلى شيء من العمق في هذه الشخصية، فهي ليست مسطحة مثل شخصيتي البائع و الشاري، وإنما لا بد لها من قدرة على التمثيل والتحايل حتى تستطيع أن تتعامل مع الرجلين كل بطريقة تجوز عليه.
إن وجود مسرح خيال الظل ومسرح الأراجوز والقراد والحاوي في الوطن العربي، يعطي دلالة على الطاقة التمثيلية الكبرى التي تمتع بها العرب قروناً طويلة قبل أن يفد المسرح البشري الغربي على أيدي فرق أجنبية عديدة.
وحتى في الوقت المعاصر وفي سوق جامع "الفناء" بمراكش يوجد مسرح الحلقة في أشكال متعددة، وكذلك مسرح الممثل الفرد الذي يؤدي وحده جميع الأدوار ورقصاً شعبياً مخلوطاً بأداء تمثيلي فكاهي. كما أن بالمغرب في الشمال الأفريقي هناك أشكال "مسرح الحلقة" و"مسرح البساط". وهذا كله يدل على وجود دراما بشرية شعبية عرفتها الأقطار العربية قبل المسرح البشري الغربي، وهو ما يطلق عليه المسرح الشعبي البشري العربي.