عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ( ) قَالَ : ( قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلاً مِنْ الْعَدُوِّ فَأَرَادَ سَلَبَهُ فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ - فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لِخَالِدٍ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ ؟ قَالَ : اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ : ادْفَعْهُ إِلَيْهِ ، فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ : هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ؟ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ فَاسْتُغْضِبَ، فَقَالَ : لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، لا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي ؟ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبلاً أَوْ غَنَمًا فَرَعَاهَا ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا، فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ، وَتَرَكَتْ كَدْرَهُ فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدْرُهُ عَلَيْهِمْ ) . ( ) .
موضع الشاهد ودلالته :
إن موقف الرسول في هذه القصية يزيد منهجيته في التحقق والتثبت والوقوف على سبب المشكلة ودوافعها سمواً ونوراً ، وذلك من خلال :
1- التزامه بكامل الهدوء والثبات أمام قضية خطيرة جداً، وتصرف مخالف لحكم الشريعة، وممن صدر؟ صدر من والي وقائد ولاَّه رسول الله وأتمنه على شؤونهم، وعدم التعبير عن رفض الموقف أو حتى استغرابه لا تلميحاً ولا تصريحاً .
2- سؤال صاحب القضية شخصياً عن دوافعه لهذا العمل، دون أن يحمل السؤال أي نوع من التوبيخ، ومن هنا يبدو لي أن السؤال عن الدافع جانب مهم وأساسي في منهجيته للتحقق والتثبت وتقييم المشكلة قبل إصدار الحكم، فالرسول يسأل خالداً هذا السؤال، مع أن عوفاً أخبره بالقصة كاملة بما فيها الدافع لهذا العمل وهو استكثاره ذلك السلب على الرجل، ومع ذلك يسأل ليستقي الحقائق من صاحب القضية دون غيره، ويمنحه فرصة المدافعة عن نفسه، ولعلّه يجد دوافعاً أخرى يكون لها أثراً في تغيير مجرى الحدث .
3- علاج المشكلة عنده يتسم بغاية الأدب، وحفظ مكانة المخطيء وهيبته، وتقدير وضعه الاجتماعي، فلا يتعدى علاجه كونه يأمره بتصحيح العمل، دون أن يبين أنه أساء التصرف أو أخطأ ، أو اقترف ذنباً ..، فكانت هذه الجملة الراقية :" ادفعه له ياخالد " كفيلة بأن تُفهم خالد جميع هذه المعاني دون أن تمس شخصه، وتجرح شعوره .
إن القلم ليقف حائراً ليسجل بعض الكلمات يصف بها روعة هذا الموقف، فلا يجد ما يوفي بحقه ، فماذا لو استنار كل مربي ومعلم وموجه في تعامله مع جميع مستويات الأفراد بقبس من هذه المنهجية العظيمة، وهذا الخلق الرفيع، إننا والله سننتج أجيالاً في قمة الرقي والعزة .
4- موازنته للأمور، وقياسها بعين الحكمة، والرجوع عن رأيه وحكمه في حال درء مفسدة أو جلب مصلحة، فهاهو ذا يرجع عن رأيه فينهاه عن إمضاء أمره من دفع السلب لصاحبه، بقوله: لا تعطه يا خالد، بل وغضب بينما لم يظهر منه غضب تجاه تصرف خالد، حين استشف من أسلوب عوف نغمة التشفي والانتصار في عبارته لخالد – إن صح التعبير – " وتوقع أن يُجسر على أمرائه فيما بعد، فرأى أنه من المصلحة إمضاء ما فعلوه أولاً؛ ليكون ذلك أبلغ في نفوذ أوامرهم وأمنع من الجرأة عليهم ". ( )
5- توضيح الموقف وبيانه ، فلا يرجع عن حكمه وقراره إلا بعد أن بيّن لهم السبب في ذلك "وهو أن الرعية يأخذون صفو الأمور فتصلهم أعطياتهم بغير نكد، وتبتلي الولاة بمقاساة الأمور وجمع الأموال على وجوهها وصرفها في وجوهها، وحفظ الرعية والشفقة عليهم والذب عنهم وإنصاف بعضهم من بعض ثم متى ما وقع عتب في بعض ذلك توجه على الأمراء دون الناس". ( )
إنه جانب مهم يجب أن يؤخذ بعين اعتبار كل مربي ومعلم؛ حفظ مكانة المخطيء والدفاع عنها ، وعدم السماح للمشتكي وغيره من النيل منها ، حتى لو استدعى الأمر إمضاء سلوكه الخاطيء .
إن منهجية الرسول في حال حدوث مشكلة تحتاج إلى حل وعلاج؛ طرح السؤال الذي يتعرف به على سببها وحقيقة أمرها، قبل إصدار أي حكم أو وتوجيه حولها، ويبلغ منهج التحقق والتثبت عنده القمة حين يطلب الاستماع للدوافع الذاتية التي دعت صاحب المشكلة الوقوع فيها دون إبداء أي نوع من التوبيخ أو اللوم حتى مع عظم الذنب وخطورته، وبناء على هذا الدافع يتم تقييم العمل والحكم عليه ومن ثم معالجته، فنجده يصوِّب العمل ويؤيد رأي صاحبه، وأحياناً يقبل عذره بناء على اقتناعه بهذا الدافع، وأحياناً يحكم بالخطأ مهما كان الدافع له، فالدافع له أكبر الأثر في تقييم المشكلة والحكم عليها .
ففي كل هذه الأحاديث يطرح الرسول سؤالاً يستفهم به عن الدافع والسبب الذي حمل الصحابي على القيام بذلك السلوك، قبل إصدار الحكم؛ فقد يكون هناك من الدوافع والأسباب المشروعة ما يبرره، ويحوّله من سلوك غير مقبول إلى نقيضه .
إن التعرف على سبب المشكلة، وتحديد دوافعها، جانب من جوانب العدل نحتاج إليه في كل حال من أحوالنا الفردية والجماعية، وذلك في حل مشاكلنا ومعالجة أخطائنا معالجة شرعية تسيطر عليها روح المحبة والإخلاص، وبهذه الأحاديث يتضح لنا القسطاس المستقيم الذي انتهجه الرسول في معالجة هذه الأخطاء رغم شناعة بعضها وخطورته .
" إن هذه الطريقة العلمية التي تعد من أسمى ما وصلت إليه الإنسانية في سبيل تحرير الفكر والضمير هي طريقة الإسلام، وهي منهج القرآن والسنة في الحوار، فالقرآن والسنة يعتمدان اعتماداً كبيراً على أسلوب الحوار في توضيح المواقف، وجلاء الحقائق، وهداية العقل، وتحريك الوجدان، واستجاشة الضمير، وفتح المسالك التي تؤدي إلى حسن التلقي والاستجابة، والتدرج بالحجة؛ احتراماً لكرامة الإنسان، وإعلاءً لشأن عقله الذي ينبغي أن يقتنع على بينة ونور" . ( )
ومما يثير عندي الدهشة، ويسترعي الانتباه أنه لم يستخدم صيغة السؤال : لماذا فعلت كذا ؟ أثناء معالجته للمشكلة، وإنما كان استفهامه عن المانع عن العمل، أو الدافع للعمل، بصيغة : ما منعك من كذا ؟ ما حملك على كذا ؟ ويؤيد ذلك ما رواه أَنَسٌ قال : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لا أَذْهَبُ وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ ، قَالَ : فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ قَابِضٌ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: يَا أُنَيْسُ أذَهَبْت حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟ قُلْتُ : نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ أَنَسٌ : وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا، وَلا لِشَيْءٍ تَرَكْتُ هَلاّ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا) .( )
وأحسب أن السؤال بهذه الصيغة من الأسئلة المفتوحة أو المفوّضة، التي تمنح الفرصة للمسئول بالتعبير، وإبداء رأيه ودوافعه، وتفتح قناة اتصال بينه وبين السائل، على عكس السؤال بصيغة: لماذا؟ أحسب أنه يحمل الكثير من التوبيخ، ولا يُشعر المسئول باستعداد السائل للاستماع .
إن طرح السؤال على المتعلم حول الأسباب والدوافع التي أدت للوقوع في الخطأ، يشعره بثقة المعلم فيه، وأن صدور السلوك الخاطئ منه ليس عن تهاون واستهتار، بل لا بد أن هناك دافعاً قوياً حدا به لهذا السلوك، وهكذا يشعر المتعلم بنظرة المعلم الإيجابية نحو تصرفاته وسلوكياته .
وقد توصَّلَت إلى هذه النتيجة بعض كتب التربية الحديثة؛ مستدركة على نتائج الدراسات التي تؤيد استخدام السؤال بصيغة لماذا ؟ ؛ حيث تقول :
" عندما يسعى المعلمون جادين في استعمال الأسئلة الأكثر إنتاجية، يكون الميل للأسئلة من فئة " لماذا ؟ " كبيراً ، فالصيغتان " لماذا ؟ " و " لماذا تعتقد ذلك ؟ " أسهل ما يطرق اللسان، ويبدو أنه من السطحية القول بأن هاتين الصيغتين تدعوان الطلاب للتفكير .
في بعض الحالات تكون أسئلة " لماذا ؟ " منتجة، ولكن في الأغلب الأعم هي مجردة من تلك الصفة، ومهما كان مستوى الحرص في إخراج نبرة " لماذا ؟ " يبدو صدى " لماذا ؟ " وكأنه جلسة تحقيق، ويشعر الطلاب أنهم قد حوصروا .
أما صيغة " لماذا تعتقد ذلك ؟ " فتدفع الطلاب لاتخاذ مواقف دفاعية، والإحساس بضرورة الدفاع، شعور لا يوصل إلى التفكير المنتج، وفرص الإنتاجية تكون أكبر في حالة تعديل بؤرة تركيزه، أو طلب المزيد من المعلومات . " ( )
إن طرح الأسئلة التي لا تحمل معنى الجزم بوقوع الخطأ من المخطئ، حتى في التحقيقات الجنائية الخطيرة، تشهد أن رسول الله كان حريصاً كل الحرص على النفس الإنسانية ذاتها وحفظ عزتها وأنفتها، وعدم النيل منها بأساليب التوبيخ والتقريع والتشهير، فهي القضية الأهم قبل تصحيح السلوك .
فصلوات ربي وسلامه على الحبيب المصطفى أعظم مربيّ على الإطلاق، أصَّل لنا بقوله علماً ، وبسلوكه رسم لنا منهجاً قويماً، إني لأتوقع أثراً تربوياً عظيماً في استخدام هذا الأسلوب حال وقوع خطأ أو مشكلة من المتربين على جميع المستويات والأعمار المختلفة .
إن الابتعاد عن صيغة لماذا ؟ واستبدالها بالسؤال عن المانع من العمل الجيد ؟ أو الدافع والحامل للعمل الغير مقبول ؟ سيجعل مسار الحوار في أعلى وأرقى مستوياته ، وستتولد منه استجابات
أفضل، وامتثال أقوى، إضافة لما تمنحه صيغة هذا السؤال من كفايات نفسية وفكرية تتجلى في حفظ مكانة المسئول واعتزازه بنفسه، وتنمية قدرته على التعبير وإبداء الرأي، وتحليل الموقف وعرض أسبابه .