عمار علي حسن
لم يبق الدين في أي زمان ومكان على حاله، بل طرأت عليه تغيرات متفاوتة الدرجة، وأصابه من شرور النفس البشرية وأهوائها الكثير، فتحول إلى صيغ عدة، نظرية وعملية، لكن هذه التحولات لا يمكن ولا ينبغي أن تعمينا عن الأصل أو التجلي الأول أو الصراط المستقيم، حسب التعبير القرآني، أو "النص المؤسِّس" لأنه يظل دوماً يمثل المرجعية والإطار الحاكم، وحائط الصد الأخير، ومكمن إنتاج الحجة والبرهان، والمظلة التي تحتمي بها طائفة ستستمر على الحق، لن يضرها من يخالفها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لكن علينا ابتداء أن نعي أمراً مهمّاً ألا وهو الفروق الواسعة بين الدين والتدين وعلوم الدين من فقه وتفسير وحديث وسيرة. فالأول يتجلى في النص الإلهي لحظة نزوله وإثباته، والثاني ينتج من تفاعل الناس مع النص عبر تأويله والوقوف على معانيه ومراميه، سواء أدى هذا التفاعل إلى الطاعة والاتباع، أم قاد إلى المعصية والابتداع، أو اجتهد في تحويل الابتداع إلى إبداع وتفاعل خلاق مع النص بإنتاج أطر نظرية وممارسات تواكب حركة الحياة التي لا تتوقف، عبر إيجاد ما يلزم من فقه الواقع.
وتحت ظلال التدين الذي يجد تفسيراً له أو تبريراً في علوم الدين، تتحول الأديان إلى خمسة أشكال يمكن ذكرها على النحو التالي:
1 - تحول التدين إلى أيديولوجيا: يصير الدين مجرد أيديولوجية حين يرتبط بظاهرة السلطة لدى الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الديني، والتي تبدأ بالمؤتلف مع الجماعة الوطنية تماماً والمستظل بأطر وأدوات الدولة الحديثة مثل "الأحزاب السياسية الإسلامية"، وتنتهي بالتنظيمات الموغلة في الخروج والعداء مثل تنظيم "القاعدة".
وحالة التوظيف الأيديولوجي للدين طافحة في السياسة العالمية المعاصرة، وقد ظهرت بجلاء في تصريحات بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر حول الإسلام، التي تبدو جزءاً لا يتجزأ من الدور الجديد الذي يمكن أن تلعبه قيادة الكاثوليك بالعالم أجمع لخدمة مشروع غربي جديد، في إعادة محفوظة ومكشوفة لما جرى في القرون الوسطى، حين كان الفاتيكان يحرض الأمراء الأوروبيين على المسلمين، ويطالبهم بأن يخلصوا بيت المقدس من أيديهم، ويحتلوا بلادهم، ويغرفوا من ثروات الشرق ما وسعهم.
وفي السنوات الأخيرة مارس الفاتيكان هذا الدور السياسي الواضح لحساب "الرأسمالية العالمية" في محاربتها للشيوعية، وقام البابا السابق يوحنا بولس الثاني بجهد كبير في هذا المضمار، بادئاً بمسقط رأسه بولندا. ويبدو أن البابا الحالي تأثر بمسيرة اليمين الأميركي المتطرف الذي تصور الإسلام "عدوّاً"، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي المنهار. وهذا ليس محض افتراء، ولا اتهاماً بلا دليل، فهناك وثيقة تبين أن الفاتيكان شارك بفاعلية في حض الكنائس الأميركية على الوقوف وراء "الجمهوريين" في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كما لا يمكن نسيان دوره في محاربة حركة "لاهوت التحرير" في أميركا اللاتينية، التي كانت تنهل من المسيحية فكراً إنسانيّاً اشتراكيّاً مضاداً للتوحش الرأسمالي.
2 - تحول التدين إلى فلكلور: تصير الأديان لدى البعض نوعاً من الفلكلور حين تتماهى في الموروث الشعبي، فيختفي جوهرها العقدي إلى حد ما، وتستبدل طقوسها التي تفرضها الشريعة، وتحدد طريقة أدائها في صيغة تفصيلية، بطقوس أخرى تتعارف عليها الجماعة، وتتبناها وتدافع عنها، وتصل بها أحياناً إلى حد من القطيعة مع الطقس الأصلي. ومن الأمثلة الجلية على ذلك ما تفعله بعض الجماعات، التي قد تبدو في الجانب الأغلب منها ظاهرة فلكلورية تلبس ثوب الدين.
3 - تحول التدين إلى أسطورة: ويحدث هذا حين تختلط "أساطير الأولين" بـالعقائد والتصورات. وهذه المسألة قديمة قدم الدين والإنسان معاً، فأديان مصر القديمة والميثولوجيا اليونانية طالما زحفت إلى التأويلات المسيحية واليهودية، فعمقت الهوة بين ما أنزل على موسى وعيسى عليهما السلام وبين ما يعتقد فيه أتباع الديانتين. وفي الإسلام توسع البعض في الاعتقاد في كرامات الأولياء، وخلعوا عليهم خوارق الأعمال والصفات، وتبنى الشيعة بفكرة "الإمام الغائب" ولم يراجعوها إلا مراجعة جزئية ومؤقتة على يد الخميني من خلال فرض مبدأ "ولاية الفقيه"، وتسربت الأساطير إلى علم الكلام وبعض السِّير والتصورات والأفكار الغنوصية عن الدين.
4 - تحول التدين إلى تجارة: حيث يطوع البعض النص لخدمة المسار الرأسمالي، ويبالغ في الحديث عن الملكية الخاصة، متناسيّاً أو مقللاً من شأن ضرورة توافر "حد الكفاية" لكل المسلمين، ويغالي في التنعم بالملذات المادية، متغافلًا عن أن الزهد من الجواهر الروحية للدين. ولم يقف الأمر عند حد الخدمة النظرية لهذا المسار، بل تجسد بطريقة مخيفة في اتساع ظاهرة الاسترزاق بالدين، عبر تحويل علومه إلى سلعة تعرض باستمرار، سواء من خلال المطابع أو الشاشات الزرقاء. وأدى هذا إلى تحول بعض منتجي الفقه والفتوى والدعوة إلى أصحاب ملايين، واتجهت رؤوس أموال طائلة للاستثمار في هذا المجال، فانطلقت عبر الأثير العديد من القنوات الفضائية الدينية، وتمكنت من جذب إعلانات قيمتها ملايين الدولارات. وبمرور الوقت تبدأ آليات السوق تؤدي دورها في هذا النوع من الإنتاج، فينفصل تباعاً عن منشئه وجوهره وأصله، وفي هذا خطر داهم على الدين.
5 - تحول التدين إلى خطاب ثقافي سائد: يتفاعل الدين مع التقاليد والعادات المتوارثة فيصبح جزءاً من الثقافة العامة للمجتمع، وتصير بعض طقوسه وتعاليمه وشفراته ولغته وكلماته وتعبيراته أمراً متعارفاً عليه حتى لدى غير المتدينين والملحدين، ويتصرف كثيرون على هذا الأساس من دون أن يدروا أو يحيطوا علماً بالجذور الدينية لهذه التصرفات. ومن هنا نقول إن المسيحيين في العالم العربي هم جزء من الحضارة الإسلامية، لأن مفرداتها تغلغلت في نفوسهم وعقولهم إلى درجة يصعب عليهم التخلص منها، مهما أوتيت للبعض منهم رغبة في الانعزال أو القطيعة أو التمرد على الرؤية الحضارية للإسلام. والأمر نفسه ينطبق على الأقليات المسلمة التي تعيش في كنف حضارات وديانات أخرى في أوروبا وآسيا.
لكن هذه الطرق الخمس للعبث بالدين لا يمكنها أن تمحو أصوله وجواهره، وليس بوسعها أن تجفف المعين الصافي الذي ينهل منه أولئك الباحثون دوماً عن الدين المكتمل بنعمته التامة وصورته التي تجلى بها للناس في زمن البداية. والله حافظ لذكره إلى أن يرث الأرض ومن عليها.