غزوة خيبر |
لما قدم رسول اللّه (ص) المدينة من الحديبية مكث فيها عشرين ليلة، ثم خرج منها غادياً إلى خيبر، وذلك في ذي الحجّة آخر سنة ست، وقيل: في محرّم أول سنة سبع من الهجرة النبوية المباركة، وكانت الراية يومئذ لعلي (ع)، كما ان الفتح كان على يديه (ع) أيضاً. وكانت خيبر منطقة واسعة ذات حصون وقلاع قوية، وأراضي ومزارع خصبة، وكانت تبعد عن المدينة بإثنين وثلاثين فرسخاً، ونفوسها ما يقرب من عشرين ألفاً، وكانت تموّل المشركين وتحرضهم على قتال المسلمين وإبادتهم، ولذلك وعد اللّه نبيّه فتحها وهو بالحديبية بقوله تعالى: يعني: صلح الحديبية، وبالمغانم الكثيرة: فتح خيبر. فخرج رسول اللّه (ص) مستنجزاً ميعاد ربّه واثقاً بكفايته ونصرته، وكان معه ألف وأربعمائة راجل ومائتا فرس، وذلك بعد أن استعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وقيل: أبا ذر، وقيل: نميلة بن عبد اللّه الليثي. وفي الطريق أذِنَ لعامر بن الأكوع أن يحدو بالإبل حتى تسرع في مشيها، فإن الإبل تخف إذا سمعت الحديّ وتنشط في السير إذا حدي لها، وكان عامر هذا رجلاً شاعراً، فنزل يحدو بالقوم ويقول: الـلّهـــــمّ لولا أنـــــت ما اهتـــــدينا ولا تــــصـــــدّقنــــا ولا صــلّيـــــنا فاغــفـر لنــــا يا رب ما اقـتــــنينــا وثـــبـت الأقــــــــدام إن لاقــيـــــنا وألــقيـــــن ســــــــــكينـة عـــلـيــنا إنـــــــا إذا صــــــبــح بنا أتـــيــــنا وبــــالصيـــاح عــــــولــــوا عـلـينا ان الــذيـــن قــد بغــــوا عــــليـــنا إذا أرادوا فـــتــــــنــــة أبــيـــــــــنا ونحــن عن فضــلك ما اســــتغنينا فسرّ رسول اللّه (ص) من قول عامر بن الأكوع وقال له: يرحمك اللّه، فرزق الشهادة في سبيل اللّه وبين يدي رسوله (ص) وذلك عندما جدّ الحرب وتصاف القوم في غزوة خيبر، حيث قد خرج من الحصن يهودي وطلب من يبرز إليه، فبرز إليه عامر، فأبلى بلاءاً حسناً ونال الشهادة أخيراً بضربة أراد أن يضرب بها العدوّ فأصابت عين ركبته، فمات منها. فقال رسول اللّه (ص) في حقّه: إنه اُوتي من الأجر مرّتين، وذلك في جواب من قال: بطل عمله لأنّ اصابته كانت من ضربته هو. |
من نفاق ابن اُبيّ |
ولما توجّه رسول اللّه (ص) إلى خيبر، أرسل ابنُ اُبيّ إلى يهود خيبر من يقول لهم: ان محمداً قصد قصدكم وتوجّه إليكم، فخذوا حذركم ولا تخافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون عزل لا سلاح معهم إلا قليل. فلما علم ذلك أهل خيبر أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر، وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا على المسلمين. هذا والرسول (ص) قد سار باتجاه منطقة الرجيع حتى ظن بعض انه يريد تأديب قبائل غطفان وفزارة لمساعدتهم اليهود في غزوة الأحزاب. فلما نزل منزل الرجيع، وكان بينهم وبين غطفان مسيرة يوم وليلة، تهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر لإمداد اليهود، فلما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حساً ولغطاً، فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا. ثم انّ رسول اللّه (ص) عرّج بمن معه من الرجيع متّجهاً إلى خيبر سالكاً الطريق الذي يقطع ارتباط غطفان وغير غطفان مع يهود خيبر، وبذلك قطع المدد عن خيبر، كما أمن من محاصرتهم له وتطويقهم إيّاه. |
على مشارف خيبر |
ولما كان رسول اللّه (ص) قريباً من خيبر وأشرف عليها قال لأصحابه: قفوا، فوقفوا، فرفع النبي (ص) يديه نحو السماء وقال: اللّهمّ رب السماوات السبع وما أظللن، وربّ الأرضين السبع وما أقللن، وربّ الشياطين وما أضللن، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم اللّه. فلما دخلوا منطقة خيبر، صلّى بهم رسول اللّه (ص) فيها صلاة الصبح وركب وركب المسلمون، وأصبح اليهود وفتحوا حصونهم وغدوا إلى أعمالهم معهم المساحي والمكاتل كعادتهم في كل يوم، فإذا بهم يفاجأون بمحاصرة رسول اللّه (ص) وأصحابه منطقتهم واحتلال كل المواضع الحساسة وسد الطرق عليهم، فرجعوا نحو حصونهم هاربين وهم يقولون: محمد واللّه وجيشه، ودخلوا حصونهم وأغلقوها بإحكام. وجعل رسول اللّه (ص) يقول: (اللّه أكبر، خربت خيبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين). |
اليهود وقرار المواجهة |
ولما دخل اليهود حصونهم، وأحكموا إغلاقها، عقدوا مؤتمراً طارئاً يبحثون فيه مستجدات الوضع الراهن، ويدرسون كيفية مواجهتهم للخطرالمحدق بهم ـ حسب نظرهم ـ فاتفقوا أخيراً على المواجهة المسلحة، وذلك بأن يجعلوا النساء والذراري في أحد حصونهم السبعة، ويجعلوا ما يحتاجون إليه من الطعام في حصن آخر، ويستقر المقاتلون على الأبراج، ويدافعوا عن كل حصن من حصونهم برمي النبال والأحجار كل من يقترب إليها، ويخرج صناديدهم خارج الحصن لمقاتلة المسلمين. وهكذا فعلوا، فاستطاعوا بسببه أن يبقوا في حصونهم ويقاوموا حصار المسلمين لهم ما يقارب من شهر واحد، وكلما حاول المسلمون الاقتراب من حصونهم رموهم من على أبراجهم بالنبال والحجارة حتى قتل بعض المسلمين وجرح آخرون. |
قبول النصيحة |
ثم إنّ رسول اللّه (ص) نزل بأصحابه على مقربة من قلاع خيبر وحصونهم وعسكر هناك، عند ذلك جاء إليه أحد أصحابه وكان عارفاً بمواضع خيبر وقلاعها، ونقاط قوّتها وضعفها وقال: يا رسول اللّه، أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه اللّه أم هو الرأي في الحرب؟ قال (ص) : بل هو الرأي. فقال : يا رسول اللّه، إنّ هذا المنزل قريب جدّاً من حصن نطأة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا وسهامنا لا تصل إليهم ولا نأمن من بياتهم، وأيضاً هذا بين النخلات ومكان غائر وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه معسكراً؟ فقال رسول اللّه (ص) : الرأي ما أشرت إليه، وقد جرى مثل هذا في غزوة بدر، ثم ضرب (ص) معسكره في منطقة آمنة. |
الرجل الذي يحبّه اللّه ورسوله (ص) |
وكان علي بن أبي طالب (ع) يومئذ صاحب راية رسول اللّه (ص) فلحقه رمد فمنعه من الحرب، وأخذ المسلمون يتناوشون اليهود من بين أيدي حصونهم وجنباتها، فلما كان ذات يوم، فتح اليهود الباب وكانوا قد خندقوا على أنفسهم خندقاً وخرج مرحب برجله يتعرض للحرب. فدعا رسول اللّه (ص) أحد الصحابة وقال له: خذ الراية، فأخذها فما لبث أن عاد يجبّن أصحابه ويجبّنونه. وفي الغد أخذ الراية صحابي آخر وسار بها غير بعيد ثم رجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه. فغضب رسول اللّه (ص) وقال: (ما بال أقوام يرجعون منهزمين يجبّنون أصحابهم؟ أما لاُعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ اللّه ورسوله، ويحبّه اللّه ورسوله كرّاراً غير فرّار، لا يرجع حتى يفتح اللّه على يديه). وكان علي (ع) أرمد العين، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللّه (ص) وكلهم يرجو أن يعطاها. فقال (ص) : أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا : يا رسول اللّه هو يشتكي عينيه. قال (ص) : فأرسلوا إليه، فأتى، فبصق رسول اللّه في عينيه ودعا له وكان في دعائه له: (اللّهم قه الحرّ والبرد). فبرأ (ع) حتى كأن لم يكن به وجع، ولم يشتك حراً ولا برداً، ثم أعطاه الراية، وكانت راية بيضاء وقال له: (خذ الراية وامض بها فجبرئيل معك، والنصر أمامك والرعب مبثوث في صدور القوم، واعلم يا علي انهم يجدون في كتابهم ان الذي يدمّر عليهم اسمه ايليا، فإذا لقيتهم فقل: أنا علي، فإنهم يخذلون إن شاء اللّه تعالى). فقال علي (ع): يا رسول اللّه اُقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. قال (ص) : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق اللّه فيه، فواللّه لئن يهدي اللّه بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس، وفي رواية: خير لك من حمر النعم، فإن أبوا ذلك فالجزية، وإن أبوا ذلك أيضاً فالحرب، فإن اختاروا الحرب فحاربهم. فخرج علي (ع) بالراية يهرول هرولة حتى ركزها قريباً من الحصن، فاستقبله حماة اليهود، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، ثم دعاهم إلى الذمّة فأبوا إلاّ الحرب، وخرج إليه ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول: قد علمــت خيـــبــر أنّي مرحب شــــاكي الســــلاح بطل مجرّب ان غُلب الدهــر فـــإني اُغـــلب والقـــرن عندي بالدما مخضّب وكان مرحب لعظم هامته لا تصلح لرأسه بيضة ولا مغفر ولذلك جعل على رأسه نقير من جبل، وكان شاكاً في السلاح. فقال علي (ع) في جوابه: أنا الذي سمّتني اُمّي حيـــــدرة كليث غابات شــــديد قســــورة اُكيلكم بالسيف كيل الســـــندرة أطعن بالرمــح وجــوه الكفــرة |
مرحب ينهزم |
فلمّا سمع مرحب اسم حيدرة سقط في يده، وولّى على وجهه هارباً ولم يقف، فتمثّل له ابليس في صورة حبر من أحبار اليهود وقال له: إلى أين يا مرحب؟ فقال : تسمّى هذا القرن بحيدرة فخفته على نفسي، لأنّ ضئري كانت تحذّرني من مبارزة رجل اسمه حيدرة وتقول: إنه قاتلك. فقال له ابليس : شوهاً لك، لو لم يكن حيدرة إلاّ هذا وحده لما كان مثلك يرجع عن مثله، ارجع فلعلّك تقتله، فإن قتلته سدت قومك، وأنا في ظهرك أستصرخ اليهود لك. فردّه، فما كان إلا كفواق ناقة حتى ضربه علي (ع) ضربة سقط منها لوجهه، وانهزم اليهود يقولون: قتل مرحب، قتل مرحب، ودخلوا حصونهم وأغلقوا باب الحصن عليهم دونه. فأقبل علي (ع) إلى الباب، وكان الباب منحوتاً من الحجر يعجز عن فتحه اُناس كثير فاجتذبه علي (ع) اجتذاباً وتترّس به، ثم رمى به فجعله على الخندق جسراً للمسلمين يعبرون عليه حتى ظفروا بالحصن ونالوا الغنائم، وقد قال ابن أبي الحديد في عينيته: يا قالع الباب الذي عــــــن هزّه عجزت أكفّ أربعون وأربــــع |
البشارة بالفتح |
وخرج البشير إلى رسول اللّه (ص) يقول: بأنّ علياً دخل الحصن، فأقبل رسول اللّه (ص) نحو الحصن، فخرج علي (ع) يتلقّاه، فلما نظر إليه رسول اللّه (ص) قال له: (بلغني نبأك المشكور، وصنيعك المذكور، قد رضي اللّه عنك ورضيت أنا عنك يا علي). فبكى علي (ع) شوقاً. فقال له: ما يبكيك يا علي؟ فقال : فرحاً بأنّ اللّه ورسوله عنّي راضيان. فاستأذن حسان بن ثابت الأنصاري رسول اللّه (ص) أن يقول فيه شعراً، فقال: وكان علــي أرمـــد العيـــن يبتــغي دواءاً فلمــا لم يحــــس مداويا شفاه رســـــول اللّـــه منــه بتـــفلة فبورك مــرقيـــاً وبــورك راقيا وقال سـأعطي الراية اليوم صارماً مكياً محـــباً للـرســــول مواليـا يحــــبّ الـهـــي والإلـــــه يـحـــــبّه به يفتح اللّه الحصـون الأوابيا فأصـــفـى بـــــها دون البريــة كلها عليــاً وسـماه الوزير المواخيا |
الإرفاق بالأسرى |
ولما فتح علي (ع) الحصن أخذ فيمن أخذ صفية بنت حييّ بن أخطب، فدعا بلالاً فدفعها إليه، وقال له: يا بلال لا تضعها إلا في يدي رسول اللّه (ص) حتى يرى فيها رأيه. فأخرجها بلال ومرّ بها في طريقه إلى رسول اللّه (ص) على القتلى، فكادت تزهق روحها جزعاً. فقال له رسول اللّه (ص) لمّا علم بذلك: أنزعت منك الرحمة يا بلال؟ ثم عرض عليها رسول اللّه (ص) الإسلام، فأسلمت فاصطفاها لنفسه، ثم أعتقها وتزوّجها، فكانت امرأة مؤدّبة، وذلك انه لما أرادت أن تركب ثنّى رسول اللّه (ص) رجله لتركب، فأبت. ورأى (ص) قريباً من عينها خضرة، فسألها عنه. فقالت: يا رسول اللّه رأيت قبل قدومك علينا كأنّ القمر زال من مكانه وسقط في حجري ـ وما كنت أذكر من شأنك شيئاً ـ فقصصتها على زوجي فلطم وجهي لطمة اخضرّت عيني منها وقال: ما هذا إلا انك تمنّين ملك الحجاز. |
فاتح خيبر |
وروي انه لما دنا علي (ع) بالراية وركزها قريباً من حصون خيبر، أطلع يهودي رأسه من الحصن وقال: من أنت؟ قال (ع): أنا علي بن أبي طالب. فلما سمع ذلك اليهودي اسم علي (ع) التفت إلى اليهود وقال: علوتم وما انزل على موسى، يعني بذلك انهم مغلوبون اشارة لما جاء في كتابهم: من ان الذي يدمّر عليهم اسمه ايليا، وهو علي (ع)، فدخل في قلوبهم من الرعب ما لم يمكنهم معه الاستيطان به. |
الاستسلام وقبول الذمّة |
لما فتح علي (ع) حصون خيبر المهمة، وقتل صناديد اليهود المدججين بالسلاح من أمثال مرحب وأخيه ياسر، وآخرين، قرابة المائة من شجعان اليهود، ولم يستطع اليهود من قتل المسلمين سوى خمسة عشر قتيل، خافوا فالتجأوا عن طريق الأنفاق السرية التي كانت تربط بعض القلاع ببعض إلى آخر قلعة بقيت لهم كان فيها جميع أموالهم ومأكولهم، ولم يكن عليها حرب بوجه من الوجوه. فنزل رسول اللّه (ص) محاصراً لمن فيها، فصار إليه يهودي منهم فقال: يا محمّد تؤمنني على نفسي وأهلي ومالي وولدي حتى أدلك على فتح القلعة. فقال (ص) : نعم أنت آمن، فما دلالتك؟ قال : تأمر أن يحفر هذا الموضع، فإنه يصل إلى ماء أهل القلعة، فتسدّ الموضع عليهم فيبقون بلا ماء فيستسلمون. فرفض رسول اللّه (ص) اقتراحه وقال: أو يحدث اللّه غير هذا، وقد أمنّاك. ثم إنه لما اشتدّ الحصار على اليهود وعلموا انهم لا يطيقون المقاومة والمقاتلة أرسل كبيرهم: ابن أبي الحقيق إلى رسول اللّه (ص) بأن اليهود تريد المفاوضة معك، فهل أنزل إليك لاُكلّمك في ذلك؟ قال (ص) : نعم. فنزل ابن أبي الحقيق وصالح رسول اللّه (ص) على حقن دماء كل من في الحصن من المقاتلين وعلى أن يخرجوا من خيبر وأرضها بنسائهم وذراريهم، ويتركوا لرسول اللّه (ص) ما كان لهم من مال وأرض، وكراع وسلاح، وبيضاء وصفراء. فصالحهم رسول اللّه (ص) على ذلك وعلى أن لا يكتموه شيئاً ممّا ادخروه أو اكتنزوه من أموالهم. |
وأخيراً .. اليهود يسلمون |
فلما نزل أهل خيبر على الصلح وتهيّؤوا للجلاء من خيبر، أتوا رسول اللّه(ص) وعرضوا عليه الطرح التالي قائلين: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها ولنا النصف من عوائدها، فنحن أعلم بها منكم وأعمر لها. فصالحهم رسول اللّه (ص) على النصف على انه إذا شاء أن يخرجهم أخرجهم، وإذا شاء أن يقرهم أقرّهم، فلما أدركت الثمرة وبلغت، بعث إليهم عبداللّه بن رواحة يجبي منهم النصف. فجاء عبد اللّه وقوّم عليهم قيمة وقال: إما أن تأخذوه وتعطوني نصف الثمن، وإما أن آخذه واُعطيكم نصف الثمن؟ فقال اليهود: هذا الحق، بهذا قامت السماوات والأرض، ثم إنهم بعد ذلك أسلموا لما رأوا من عدل الإسلام وأخلاق الرسول (ص). وقيل : إنه لما جرت المقاسم في أموال خيبر شبع المسلمون ووجدوا بها مرفقاً لم يكونوا وجدوه من قبل حتى قال بعضهم: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وعن بعضهم: انه لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر. |
للعفو لا للانتقام |
ولما اطمأن رسول اللّه (ص) وتفرّغ من فتح خيبر أهدت له اليهودية: زينب بنت الحارث بن سلام بن مشكم وهي ابنة أخي مرحب، شاة مصلية، وقد سألت: أيّ عضو من الشاة أحبّ إلى رسول اللّه (ص) فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السم وسممت سائر الشاة. ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يديه (ص) تناول الذراع فأخذها فلاك منها مضغة وانتهش منها ثم لفظها، ومعه بشر بن البراء بن معرور فتناول عظماً فانتهش منه وأساغه. فقال رسول اللّه (ص) : ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة تخبرني انها مسمومة. ثم دعى (ص) اليهودية فاعترفت. فقال (ص) : ما حملكِ على هذا؟ قالت، وهي تطلب لما فعلته عذراً: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان نبياً فسيخبر، وإن كان ملكاً استرحت منه، فتجاوز عنها رسول اللّه (ص). ثم إنها لما رأت من أخلاق رسول اللّه (ص) ما رأته أسلمت وقالت: الآن عرفت انك نبي من عند اللّه واني اُشهدك ومن حضر اني على دينك، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وانّك محمّد رسول اللّه (ص). ثم مات بشر بن البراء من أكلته تلك، ولكن بقي رسول اللّه (ص) بعد ذلك ثلاث سنين يعاني منها حتى قال لاُم بشر بن البراء عند ما جاءت تعوده في مرضه: يا اُمّ بشر، ما زالت الأكلة التي أكلت يوم خيبر مع ابنك تعاودني فهذا أوان انقطاع ابهري، فتوفي رسول اللّه (ص) شهيداً. وهناك روايات اُخرى في سبب وفاته (ص) مذكورة في المفصّلات. |
بشارتان |
ولما فتح رسول اللّه (ص) خيبر، أتاه البشير بقدوم ابن عمّه جعفر بن أبي طالب (ع) وأصحابه من أرض المهجر: الحبشة إلى المدينة، فما لبث أن جاء جعفر، فقام رسول اللّه (ص) يتلقّاه، فالتزمه وقبّل ما بين عينيه، ثم أقبل (ص) على الناس وقال: أيّها الناس ما أدري بأيّهما أنا أسَرّ؟ بافتتاحي خيبر، أم بقدوم ابن عمّي جعفر؟ وقيل: لما جاء جعفر قام إليه رسول اللّه (ص) واستقبله اثنتي عشرة خطوة، وقبّل ما بين عينيه وبكى وقال: لا أدري بأيهما أنا أشدّ سروراً، بقدومك يا جعفر، أم بفتح اللّه على أخيك خيبر؟ ثم قال رسول اللّه (ص) لجعفر: يا جعفر ألا أمنحك؟ ألا اُعطيك؟ ألا أحبوك؟ قال جعفر : بلى يا رسول اللّه. فظنّ الناس انه يعطيه ذهباً أو فضّة. قال (ص) : إني اُعطيك شيئاً إن أنت صنعته في كل يوم كان خيراً لك من الدنيا وما فيها، فعلّمه الصلاة المعروفة بـ (صلاة جعفر الطيّار) وهي أربع ركعات بكيفية خاصة مذكورة في محلّها. |
هدايا من أرض المهجر |
لما قدم جعفر على النبي (ص) بخيبر أتاه بالفرع من الغالية والقطيفة فقال النبي (ص): لأدفعنّ هذه القطيفة إلى رجل يحبّ اللّه ورسوله، ويحبّه اللّه ورسوله، فمدّ الأصحاب أعناقهم إليها. فقال النبي (ص) : أين علي؟ فوثب عمّار بن ياسر فدعا علياً (ع)، فلما جاء قال له النبي (ص): يا علي خذ هذه القطيفة إليك. فأخذها وأمهل حتى قدم المدينة، فانطلق إلى السوق وأمر صائغاً ففصل القطيفة سلكاً سلكاً، فباع الذهب، ثم فرّقه في فقراء المهاجرين والأنصار، ثم رجع إلى منزله ولم يترك لنفسه شيئاً. فلقيه النبي (ص) من غد في نفر من أصحابه فقال له: يا علي اجعل غدائي اليوم وأصحابي هؤلاء عندك. فقال علي (ع) مع انه لم يدّخر شيئاً: نعم يا رسول اللّه، على الرحب والسعة. فدخل رسول اللّه (ص) مع أصحابه وكانوا خمسة: حذيفة، وعمّار، وأبوذر، وسلمان، والمقداد. قال حذيفة : ودخل علي (ع) على فاطمة (ع) يبتغي عندها طعاماً، فوجد وسط البيت جفنة من ثريد تفور وعليها عراق كثير، وكأن رائحتها المسك، فحملها علي (ع) حتى وضعها بين يدي رسول اللّه (ص) فأكل وأكلنا حتى تملأنا ولم ينقص منه شيء. فقام النبي (ص) حتى دخل على فاطمة (ع) وقال (ص) ونحن نسمع كلامه: أنّى لك هذا الطعام يا فاطمة؟ فخرج النبي (ص) مستعبراً وهو يقول: الحمد للّه الذي لم يمتني حتى رأيت لابنتي ما رأى زكريّا لمريم، وكان إذا دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً، فيقول لها: يا مريم أنّى لك هذا؟ فتقول: (هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب). |
كرامات ظهرت في خيبر |
وقال بعض من شهد خيبر من أصحاب رسول اللّه (ص): ما عجبنا من فتح اللّه خيبر على يدي علي (ع)، ولكنا عجبنا من قلعه الباب ورميه خلفه أربعين ذراعاً، ولقد تكلّف حمله أربعون رجلاً فما أطاقوه. فاخبر النبي(ص) بذلك فقال: والذي نفسي بيده لقد أعانه عليه أربعون ملكاً. وحينما سأله (ص) أحدهم: يا أبا الحسن لقد اقتلعت منيعاً وأنت ثلاثة أيام خميصاً، فهل قلعتها بقوّة بشرية؟ قال (ع): ما قلعتها بقوّة بشرية ولكن قلعتها بقوّة إلهية. أي بعنايته تعالى. |