العشر من ذي الحجة
استحباب صيام التسعة
عن حفصة،قالت:”أربع لم يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم:صيام عاشوراء،والعشر،وثلاثة أيام من كل شهر،والركعتين قبل الغداة".رواه أحمد(6/287)،والنسائي(4/200).
وقال أيضا عليه الصلاة والسلام:”ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر".أخرجه البخاري(926).
هذه كلها أدلة على استحباب صيام التسعة الأول من ذي الحجة والزيادة من العمل الصالح فيهن،فأما ما روي عن الرسول(لم يكن يصم العشر)أخرجه مسلم(1176) من حديث عائشة رضي الله عنها فهذا إخبار الراوي عن علمه،وقول الرسول مقدم على شئ لم يعلمه الراوي،وقد رجح الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يصوم عشر ذي الجحة"فإن ثبت فهذا هو المطلوب وإن لم يثبت فإنه يدخل في الأعمال الصالحة التي قال الرسول صلى الله عليه وسلم:”ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر".
هذا قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وأما قول الإمام النووي: وقول عائشة رضي الله عنها (ما رأيت الرسول صائما في هذه الأيام قط ) وفي رواية: (لم يصم العشر) قال العلماء: هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا: الأيام التسعة من أول ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يتأول فليس في صيام هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحبابا شديدا لا سيما التاسع منها، وهو يوم عرفة،فقد ثبت في صحيح البخاري:ِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه )-يعني: العشر الأوائل من ذي الحجة-. فيتأول قولها لم يصم العشر، انه لم يصمه لمرض أصابه أو لسفر أو غيرهما ، أو أنها لم تره صائما فيه، ولا يلزم عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: الإثنين من الشهر والخميس ورواه أبو داوود وهذه لفظه وأحمد والنسائي وفي روايتهما (وخمسين), والله أعلم.(شرح الإمام النووي على مسلم).
يوم عرفة
وآكد هذه الأيام التسع هو يوم عرفة وهو اليوم التاسع،وإنما كان آكد الأيام أيام العشر لأن النبي:”سأل عن صوم يوم عرفة فقال صلى الله عليه وسلم:”أحتسب على أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده"أخرجه مسلم(1162).وعلى هذا فصوم يوم عرفة أفضل من عاشوراء،لأن الرسول قال فيه"أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".فقط،أما هذا فقال السنة التي قبله والسنة التي بعده.
هذا لغير الحاج أما الحاج فإنه لا يسن له أن يصوم يوم عرفة،لأن النبي صلى الله عليه وسلم"نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة"وهذا الحديث في صحته نظر،لكن يؤيده"أن الناس شكوا في صومه صلى الله الله عليه وسلم يوم عرفه،فأرسل إليه بقدح من لبن فشربه ضحى يوم عرفة والناس ينظرون إليه".متفق عليه.حتى يتبن لهم أنه لم يصم،ولأن هذا اليوم يوم دعاء وعمل،ولا سيما أن أفضل الدعاء آخر هذا اليوم،فإذا صام الإنسان فسوف يأتيه آخر اليوم تعب و كسل،ولا سيما أيام الصيف وطول النهار وشدة الحر،فإنه يتعب وتزول الفائدة العظيمة الحاصلة بهذا اليوم،والصوم يدرك في وقت آخر،ولهذا فإن صوم يوم عرفة للحاج مكروه،وأما لغير الحاج فهو سنة مؤكدة.(الشرح الممتع ج3/102-103).
وقال الدهلوي في كتابه حجة الله البالغة أن السر في صيام عرفة:أنه تشبه بالحاج،وتشوق إليهم،وتعرض للرحمة التي تنزل إليهم،وسر فضله على يوم عاشوراء أنه خوض في لجة الرحمة، الرحمة النازلة ذلك اليوم،أما صيام عاشوراء فإنه تعرض للرحمة لتي مضت وانقضت،وهذا اجتهاده والله أعلم.(ج2/763-764).
الأمور المستحب القيام بها في هذه الأيام
وإن من اللأمور المستحبة في هذه الأيام كثرة الذكر فقد قال تعالى(ولذكر الله أكبر){العنكبوت:45}،وقال تعالى (فاذكروني أذكركم){البقرة 152}،وقال تعالى (واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون){الجمعة:10}والآيات في هذا الباب كثيرة معلومة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلمتان خفيفتان على اللسان،حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.)متفق عليه.
وعنه صلى الله عليه وسلم قال ( لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله،والله أكبر، خير لي مما طلعت عليه الشمس)رواه مسلم.
وعنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :ِِِِ(من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير،في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب ، وكتبت له مئة حسنة،محيت عنه مئة سيئة،وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذاك حتى يمسي،ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه)وقال: (من قال سبحان الله وبحمده في يوم مئة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).متفق عليه.
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن الني صلى الله عليه وسلم قال(من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير،عشر مرات:كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل)متفق عليه.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم(ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله:سبحان الله وبحمده)رواه مسلم.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال:علمني كلاما أقوله.قال (قل: لا إلا الله وحده لاشريك له، الله كبيرا،والحمد لله كثيرا،سبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)قال: فهؤلاء لربي، فما لي ؟قال
قل اللهم اغفر لي وارحمني،واهدني،وارزقني)رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله عز وجل، تنادوا: هلموا إلى حاجتكم،فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم-وهو أعلم بهم-:ما يقول عبادي؟قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟فيقولون: لا والله ما رأوك،فيقول كيف لو رأوني؟قال:يقولون لو رأوك لكانوا أشد عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا. فيقول: فماذا يسألون؟ قال: يقولون: يسألونك الجنة.قال:يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال : يقول:فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة. قال : فمم يتعوذون؟قال: يقولون: يتعوذون من النار. قال فيقول: وهل رأوه؟ قال : يقولون: لا والله ما رأوها. فيقول كيف لو رأوها؟قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). متفق عليه.
قال ابن عثيمين رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث دليل على مفاضلة مجالسة الصالحين،وأن الجليس الصالح ربما يعم الله سبحانه وتعالى رحمته وإن لم يكن مثله، لأن الله قال: قد غفرت لهذا. مع أنه ما جاء من أجل الذكر والدعاء لكنه جاء لحاجة، وقال: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وعنه وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده). رواه مسلم.
وعن أبي واقد الحارث بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو جالس في المسجد، والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا. فلما فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة، أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض الله عنه).متفق عليه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية رضي الله عنه على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله.قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: ما أجلسنا إلا ذاك، قال:أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: (ما أجلسكم ؟)، قالوا:جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا. قال: (آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟) قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: (أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكمك الملائكة).رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة.والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).رواه مسلم.
وقد قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث:
هذا حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب،وقوله (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله...................)قيل: المراد بالسكينة هنا: الرحمة، وهو الذي اختاره القاضي عياض وهو ضعيف، لعطف الرحمة عليه، وقيل: الطمأنينة والوقار وهو أحسن، وفي هذا دليل لفضل الاجتماع لتلاوة القرآن في المسجد،وهو مذهب الجمهور.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) معناه: يظهر فضلكم لهم، ويريهم حسن عملكم، ويثني عليكم عندهم، وأصل البهاء: الحسن والجمال، وفلان يباهي بما له، أي: يفخر ويتجمل بهم على غيرهم ويظهر حسنهم.
قراءة القرآن
ولا ننسى أن من الأعمال الصالحة في هذه الأيام هي قراءة القرآن، فعن أبي أمامة رضي الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه. اقرءوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران.فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان. أو كأنهما غيابتان أو كأنهما فرقان من طير صواف.تحاجان عن أصحابهما. اقرءوا سورة البقرة. فإن أخذها بركة. وتركها حسرة. ولا يستطيعها البطرة).رواه مسلم.
*البطرة: هم السحرة.
وقد ورد في صحيح مسلم أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان. وكان عمر قد استعمله على مكة. فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: ملى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل. وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) متفق عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم (لا حسد إلا في اثنتين) قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي ومجازي، فالحقيقي: تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة مع النصوص الصحيحة. وأما المجازي فهو الغبطة وهو أن يتمنى مثل النعمة على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد بالحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها حلو، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة: ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها مر). متفق عليه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: آلم حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(صحيح الجامع، صححه الألباني رحمه الله في مشكاة المصابيح).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك في الجنة عند آخر آية تقرؤها) رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه الإمام الألباني في مشكاة المصابيح.ِِ