محاضرات في الديمقراطية
تعريف الديمقراطية :
لغويّاً تعرف الديمقراطيّة بأنها كلمةٌ مركبة مِن كلمتين: الأولى مشتقة من الكلمة اليونانية Δήμος أو Demos وتعني عامة الناس ، و الثانية Κρατία أو kratia وتعني حكم. و بهذا تكون الديمقراطية Demoacratia مشتملة على معنى 'حكم الشعب' أو 'حكم الشعب لِنفسهِ'.
وفي الاصطلاح ، تعرف الديمقراطية بانها :
1- حكم الشعب للشعب ولصالح الشعب " ابراهام لنكولن " .
2- حكم يقيمه الشعب وتكون فيه السلطة العليا مناطة بالشعب ويمارسها مباشرة او بواسطة وكلاء عنه ينتخبهم في نظام انتخابي حر . " تعريف القاموس "
3- عبارة عن الترتيب المؤسساتي الذي يؤمن الوصول الى قرارات سياسية ، والذي يتمكن فيه الافراد من امتلاك القدرة على التقرير من خلال التنافس على اصوات الناخبين " شومبتير " .
4- اشتِراك الشعب في حكم نفسه، وعادة ما يكون ذلك عبر حكم الاغلبية عن طريق نظام للتصويت و التمثيل النيابي .
5- نظام سياسي ومنهج سلمي للحكم يكتسب قوته وشرعيته من الشعب من خلال عملية انتخابية اجرائية تتحقق بها مصلحة الشعب .
6- الديمقراطية: هي الحرية المقننة التى تراعي مصالح الأخرين أو مراعاة المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة .. وهي احترام الأخر وعم المساس بمعتقداته أو مشاعره .
7- الديمقراطية : هي الالتزام بالكلمة الصادقة هي الشوري فيما بيننا للوصول إلي أفضل الحلول لمصلحة الجميع وليست لمصلحة فردية ، الديمقراطية : هي أن يكون لأصغر إنسان الحق في إبداء الرأي .
وفي العهد الأقرب حاول علماء السياسة تعريف "الديمقراطية" باقتراح نموذج مثالي ,فيطرح داهل (Dahl) سمتين ملازمتين للديمقراطية وهما "الشمولية والصراع العام."
فالأولى هي حق كل إنسان راشد في المشاركة في النشاط السياسي، بما في ذلك حق ترشيح نفسه في الانتخابات. والثانية هي جميع الحريات المدنية التي تتيح للمواطنين الإعراب عما يفضلونه من حيث فقد السلطة وتنظيم المعارضة ضد الحكومة وعزلها إذا رغبت أكثرية بذلك. ولكي يعمل هذا النظام بنجاح فإنه لا بد من وجود التسامح مع أولئك الذين يختلف المرء معهم وكذلك احترام وقبول لحرياتهم المدنية ، وحري بالذكر ان لا اتفاق بين السياسيين والمفكرين في العصر الحديث على تعريف واحد للديمقراطية بل هناك اطر عامة يشتمل عليها تعريفهم منها ما ذكرنا آنفا ومنها ان مجمل تعاريفهم قد اتفقت على مبادئ المشاركة في الحكم واللامركزية في ادارة البلاد وتوزيع السلطات والمهام على ثلاث هيئات تمثل السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية وشمولية حق الاقتراع لكل المواطنين .
التطور التاريخي لمفهوم الديمقراطية
أ- الديمقراطية في حضارة وادي الرافدين :
في حدود الاف الثاني قبل الميلاد وجدت في ارض العراق القديم مجتمعات منظمة كونت بفعل عوامل التطور اولى معالم الحضارة في العالم ، وكان من ابرز مظاهر التحضر وقتئذ هو اختراع الآلة التي اسهمت في تطوير الصناعات الحرفية والزراعة ، وبعض الصناعات النسيجية وصناعة الفخار والاواني المنزلية واكتشاف المعادن ووسائل الصيد والاسلحة التي تعتمد على الحديد والنحاس...الخ
وايضا كان لهم كسب السبق في تأسيس علوم عديدة منها الفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم ما وراء الطبيعة كعلم النجوم والسحر ... كما توصلوا الى ابتكار الكتابة الصورية التي حققت التواصل بين ابناء المجتمع من دون اللجوء الى استحضار العامل الانساني الناطق ، ثم تطور الامر مع التواصل المكتوب مما ادى الى ابتكار الكتابة المسمارية القديمة على الرقم والواح الطين والالواح المصنوعة من المعادن كالحديد والبرونز والنحاس ، وقد برعوا في النحت والشعر الذي يقوم على الاسطورة والخيال .
لقد كانت بلاد وادي الرافدين تتمتع بكل مظاهر الحضارة والتمدن في شتى مجالات الحياة في وقتها .
الامر الذي كان مقدمة جيدة لتأسيس انظمة للحكم متمدنة ومتطورة ، فقد اسسوا دويلة المدينة التي تقوم على نظرية الحق الالهي في الحكم بمعنى ان الملك هو ظل الآلهه وهو مندوبها الذي يقيم العدل بين الناس ، وتاسيسا على هذا الحق من الواجب على الرعية الطاعة المطلقة لملوكهم ، ومن هنا كان اساس الملك والحكم في بلاد وادي الرافدين قائما على الملكية المطلقة التي يعضدها ويشرع وجودها الواعز الديني الذي روج له الكهنة وجعله القاعدة التي ليست محل شبهة او نقاش فالملك والكاهن هما صاحبي الحق الالهي في ادارة البلاد وقيادة الامة.
لقد تأسست البنية الاجتماعية في ذلك الوقت على وفق تصور ديني كان من ابرز مظاهره وجود المعبد الذي يعد الركن الذي بنيت المدن بموجبه فكل مدينة سومرية او اكدية لا تخلو من وجود قصر الملك والمعبد اضافة الى مكونات المدينة الاخرى مثل السوق والمساكن والطرقات والسجن وبيت العدالة " المحكمة "
ونتيجة لعوامل التطور الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية التي من ابرزها زيادة عدد السكان وتنوع حاجاتهم نشأت عن كل قرية دويلة سميت بدويلة المدينة ، لانها كانت تزخر بكل مكونات الدولة من وجود ملك ومعبد وقانون خاص بتلك الدويلة وايضا قوة من الجيش والحرس الملكي وحرس المعبد وحراس المحكمة ، وتتميز كل دويلة مدينة بوجود الملك والكاهن الذي كان يعد من كبار المستشارين ولديه صلاحيات محددة قائمة على العرف والتقليد وايضا كان للملك مستشارين من اعيان البلد يضمهم مجلس يسمى " مجلس الشيوخ " يشاركهم الملك في اتخاذ قرارات السلم والحرب كما يشاركون في انتخاب ملكا او حاكما ان مات الملك او الحاكم ولم يخلف له وريثا على العرش.
لقد بلغت حضارة وادي الرافدين من الرقي انها كانت حضارة تعتد بالقانون المكتوب في تنظيم العلاقة بين ابناء الشعب البابلي فقد برع عدة فلاسفة ومفكرون في ابتداع مجموعة من القوانين المكتوبة التي كان منشؤها الاعراف والتقاليد البابلية ارادوا بها تحديد ما للمواطن من الحقوق وما عليه من الواجبات كما اشارت بعض تلك القوانين الى الصلاحيات الممنوحة لكل من الكهان والملوك والحاكمين ومجالس الشعب ومجالس المحاربين ، لكن المميز ان طبقة الكهان والملوك كانت فوق القانون البابلي وليس لاحد ان يقاضي كاهنا او ملكا على اعتبار انهم سيقاضون الآلهه عندئذ ، ومن ابرز القوانين التي وضعها البابليون هو قانون حمورابي ، وهو الامير الذي بعثه الله او الذي بعثته الآلهه ليقيم العدل " كما في ترجمة مقدمة القانون" وقد احتوى على 282 مادة اشتملت على جميع جوانب الحياة الاجتماعية والخدمية والاقتصادية اضافة الى الاحوال الشخصية والعقوبات ، ولعل وجود مثل هذا القانون بمواده وصياغته التي تماثلها معظم الصياغات والمواد في القوانين الوضعية الحالية يدل على ما كان يتمتع به سكان حضارة وادي الرافدين من رقي وحضارة واستقرار سياسي واقتصادي ، ومن القوانين المكتوبة التي وصلت ايضا قانون اشنونة " اسم احدى العائلات الملكية التي حكمت وادي الرافدين ردحا من الزمن " وقد اشتمل هذا القانون ايضا على امور عديدة منها السياسي ومنها الاجتماعي والاقتصادي وكان يهدف ايضا الى تنظيم العلاقة بين الناس بمختلف طبقاتهم وبين القائمين على حكمهم .
لقد اتسم المجتمع في ذلك الوقت انه كان على عدة طبقات : الاولى كانت للحكام والكهان ، والتي تليها لاشراف القوم ثم طبقة المحاربين وبعدها طبقة اصحاب المهن ثم الفلاحين واخيرا الرقيق سواء اكانوا رقا مؤقتا ام دائميا ، ( الرق المؤقت هم سكان البلد الاصليون اما الرق الدائمي فهم من الاجانب الذين وقعوا في الرق بسبب الاسر او لعروض التجارة ) .
و الملاحظ ان مجالس الشيوخ التي تشارك الملك في الحكم لا تكون الا من طبقة الاشراف اما طبقة المحاربين فتتألف من قواد الجيش وما سوى طبقتي الاشراف وقواد الجيش لم يكن ليرصد لهم الدور الفعال في الحياة السياسية في ذلك الوقت اما الكهان فهم بحق عبارة عن حكومة قائمة بنفسها تتفق احيانا مع الامير او الملك فتتشكل دويلة مدينة قوية تفرض هيمنتها وسلطانها على ما يجاورها من الدويلات واحيانا تتضارب المصالح والافكار بين الملك وحاشيته وكاهن المعبد وحاشيته فتضعف دويلة المدينة وتسير الامور عندئذ نحو اشبه ما يكون بالحرب الباردة ، لكن في نهاية المطاف يكون البقاء للاقوى وهم طبقة الكهان مع مؤسستهم الدينية لانهم كما يزعمون الوسيط بين الآلهة وبين البشر وهم الوحيدون الذين يعطون الشرعية على حكم الملك .
مما مر ذكره يكمن المظهر الديمقراطي عند سكان وادي الرافدين في ان نظام الحكم عندهم مؤلف من الملك ويشاركه مجلسان الاول هو مجلس الشيوخ ووظيفته اقتراح القوانين وابداء المشورة للملك واعلان الحرب وفرض الضرائب وكانت لهم قوة الالزام على الملك في تنفيذ القرارات التي يرونها مناسبة حتى ان لزم الامر باقالة الملك نفسه على ان يؤازرهم في ذلك الكهنة اما المجلس الآخر فهو مجلس المحاربين ، وهذا يختص في ابداء المشورة للملك في حال الحرب وايضا في عقد المعاهدات الخارجية واعداد وتهيئة الخطط العسكرية واستشارات حفظ الامن الخارجي .
ومن امثلة الصلاحيات التي تمتع بها مجلس الشيوخ ما فعلوا عندما ترك ملك كلكامش امور الحكم بيد رئيس مجلس الشيوخ بعد ذهابه للحرب ، وايضا عندما عزل مجلس شيوخ دويلة " كيش " حاكمهم ، ثم انتخبوا حاكما غيره ، وتجدر الاشارة الى ان دويلات المدن قد انتظمت بعد فترات من الزمن بدولة كبيرة كانت بابل عاصمتها ، وعندئذ ارتبطت دويلات المدن بملك واحد واصبح كل ملك دويلة مدينة حاكما على دويلته ويكون ارتباطه بالملك قائما على مبدأ الفدرالية حديثا ، اذ لا يستطيع الملك مباشرة الحكم على الاقاليم " دويلات المدن " الا من خلال حاكم الاقليم وكان كل اقليم متمتعا بسلطة مباشرة على اقليمه ويؤازره في الحكم مجلسا الشيوخ والمحاربين اضافة الى كبير الكهان ، وله جيش وحرس ملكي منفصل عن جيش الملك "حكومة المركز " .
من هنا نجد ان الديمقراطية في وادي الرافدين لا تنقصها الا عملية الاقتراع المباشر ، وعلى الرغم من حصول الاقتراع بين مجلس الشيوخ على بعض الملوك عزلا او تعيينا الا ان ذلك لم ينزل الى عامة الشعب حتى تكون الديمقراطية مطبقة بتمامها ، بل بقي حق الاقتراع في فئة من الناس بعينها وبوقت معين ، لكن المظاهر التي تدل صراحة على وجود نظام اقرب ما يكون الى الديمقراطية بمفهومها الحديث متأصلة من خلال الامركزية في الحكم التي انف ذكرها وايضا القانون الذي بنيت عليه الدولة البابلية وكذلك اقرار مبدأ المشاركة في الحكم من خلال وجود مجلس الشيوخ الذي قيد سلطة الملك ونقلها من كونها ملكية مطلقة الى ملكية مقيدة بقانون ، ويماثل ذلك بعض الانظمة السياسية التي تعتمد على الملكية المقيدة " الدستورية " كاساس في تطبيقها الديمقراطية .
وتنتهي قصة الديمقراطية في وادي الرافدين في بروز النزعة الى الحكم المطلق عند بعض ملوك بابل الذين استبدلوا نظام الحكم وجعلوه وراثيا وصادروا الكثير من صلاحيات مجلس الشيوخ ومع الزمن تقاذفت هذه الحضارة العريقة الحضارات المتاخمة ثم افل نجمها بعد عمر قارب الستة آلاف عام .
ب- الديمقراطية في حضارة وادي النيل :
تعد الحضارة المصرية القديمة من فضليات الحضارات التي تمتعت بقدار كبير من الرقي على كافة الاصعدة وقد زامن وجودها حضارة وادي الرافدين في فتراتها المتأخرة ويعتقد علماء التأريخ القديم ان سلالة شعوبها وحاكميها قد انحدرت من اعالي النيل أي من ارض السودان ثم تآلفوا وشكلوا مجتمعات بدائية تطورت بفعل الزمن الى مجتمع حضاري ، فبالاضافة الى اتقانهم عدة علوم من امثال الفلك والرياضيات والهندسة المعمارية والطب ومجمل العلوم الميتافيزيقية " علوم ما وراء الطبيعة كالسحر .." كان لديهم كسب السبق في صناعة ورق البردي الذي افادوا منه في كتابة مدوناتهم ونشر العلوم التي برعوا بها ، ولامتداد الحضارة المصرية عبر التاريخ تنوعت انماط الحكم فيها وكانت على مراحل عدة بين مد وجزر في اثبات نظامها السياسي او اختلاله وهذا يتوضح من خلال الآتي :
1 . عهد الفراعنة :
مر هذا العهد بمراحل ثلاث ، الاولى : هي مرحلة الدولة الفرعونية القديمة ، والثانية تسمى مرحلة الدولة الفرعونية الوسطى ، والثالثة هي مرحلة الدولة الفرعونية الحديثة .
تطورت الحضارة المصرية وتبلورت مبادئ "حكومة مركزية" حوالي العام 3200 ق.م. حيث قام الملك مينا بتوحيد مملكتي الشمال والجنوب المصريتين. وشهد عصر هذه الدولة نهضة شاملة في شتى نواحي الحياة، حيـث توصـل المصريـون إلى الكتابة الهيروغليفية أي النقش المقدس ، و تأسست ممفيس كأول عاصمة للبلاد واهتم الملوك بتأمين حدود البلاد ونشطت حركة التجارة المصريين وما سواهم من الحضارات المجاورة ، الامر الذي حقق تواصلا كبيرا واطلاعا واسعا على انظمة الحكم والحركة السياسية التي تشهدها المعمورة في ذلك الوقت ، مما مهد لان يتحول الشعب المصري الى مفهوم الدولة الذي يتكون من سلطة سياسية تردفها سلطة دينية .
وكان نظام الحكم في هذه المرحلة ملكيا مطلقا ، فابتدا الملوك بحكم شعب مصر على وفق نظرية انهم ابناء الآلهه او انهم نتاج لزواج الآلهه بالبشر ، وتطور الامر من بعد ، فقد نصب الفرعون نفسه الها واجب الطاعة ، وهو وحده مصدر التشريع واليه يتوجه المصريون في العبادة ، ويقدمون القربان له وحده ، وقد مهد لهذا الامر الكهان الذين لعبوا دورا فعالا في توجيه الشعوب الساذجة نحو الوهية البشر باقناعهم ان ارواح الآلهه قد حلت بجسد الفرعون ، وساعد في اقناع هذه الشعوب ما امتلك الكهان من علوم تطبيقية خصوصا في حقل الكيمياء والفيزياء ، اذ وظفوا تلك العلوم في بعض التصاميم المعمارية التي تقوم على خواص المواد الفيزيائية ثم تعمدوا ايهام الشعب المصري في ان الظواهر التي ترافق الترنيمات التي كانوا يحدثونها في بعض الطقوس عند دخولهم المعبد انما من الآلهة المتجسدة بشخص الفرعون والاصل انها خواص بعض المواد في التصميم العمراني للمعبد ، وايضا اقنعوا الناس بتفسيرات للظواهر الطبيعية انها رضا الاله او غضبه ، من ذلك : فيضان نهر النيل السنوي في موسم الصيف والاصل ان الفيضان يحدث وقت المطر أي في فصل الشتاء على ارض مصر ، لكن العامة لم يدركوا ان النيل ينبع من المناطق الاستوائية التي تتميز بان الامطار فيها موسمية تهطل وقت الصيف وليس الشتاء ، لكن الكهان ادركوا ذلك ووجهوا الشعب المصري اتجاها يخالف الواقع ، وذلك باقناعهم ان الفيضان هو غضب الاله ولابد من الاضاحي التي كانت غالبا بشرية .. ، علاوة على امتلك الكهان علوما بعضها تطبيقية ، من مثل الكيمياء والرياضيات والحسابات الفلكية ، وبعضا من فنون ما وراء الطبيعة ، كفن السحر والتنجيم وبعض خصائص النفس الانسانية .
ويعد الكهان هم الذين مهدوا لفكرة الوهية ملوك مصر بل نقلوها الى حيز التطبيق من اجل ان يقوم نظام سياسي للحكم يقوم على الطاعة المطلقة لشخص الفرعون ،على اعتبار انه الاله الذي بيده ارزاق المصريين ومصائرهم ، والكاهن هو المتصرف في ارادة الفرعون وهو من تقع على عاتقه مسؤولية تنفيذ تلك الرغبات لكن بصيغة تحقق ايضا جل مصالح الكهان واطماعهم في السيطرة وتملك ارزاق وانفس العباد ، واغلب الظن ان الكهان سلكوا هذا الاتجاه للحيلولة دون قيام نظام سياسي يحتم على الملوك المشاركة في الحكم كامثال الانظمة التي شاعت فيما جاور من الحضارات وليقطعوا الطريق عن طبقة الاشراف في التطلع الى العرش ومحاولة السيطرة على كرسي الحكم .
والمميز في هذه الحقبة ان الحكم ينتقل بالوراثة ولم يتشارك الفرعون مع عامة الناس في اتخاذ القرارات المهمة او تشريع القوانين بل ان كلمته كانت هي القانون الشرعي ولا يعدلها أي قانون آخر ، وربما استأنس بآراء حاشيته المقربين وهم قادة الجيش الكبار والوزراء وكبار الموظفين الذين كانوا غالبا من اقارب الفرعون وابناء سلالته .
وكان الشعب المصري مجبول على الطاعة بل يتسابق احرارهم لنيل جائزة رضا الفرعون وهذا ما فعله جلهم عند بناء الاهرامات التي هي في اعتقادهم منازل الفراعنة في الحياة الأخرى ، فقد جندوا انفسهم طوعا للمشاركة في بناء الاهرامات لايمانهم ان هذا العمل مقدس ويستحصل معه الثواب الجزيل من قبل الفرعون في هذه الحياة والحياة الاخرى ..
وابتدأت الدولة الفرعونية الوسطى حوالي سنة 2200 ق . م حين انفلت زمام الحكم من يد الفرعون حتى استطاع " منتوحتب الثاني" توحيد البلاد مرة ثانية اذ تمكن" منتوحتب الثاني " أمير طيبة حوالي سنة 2065 ق . م من إعادة توحيد البلاد وقام بتأسيس حكومة قوية نجحت في توطيد النظام و استتاب الأمن مما ساعد على انتعاش البلاد اقتصادياً و تقدمت الفنون و العمارة ثم بدأ سنة 2000 ق . م حكم رجل عظيم هو أمنمحات الأول صاحب الفضل الأكبر في بناء النهضة التي ظهرت أيام الدولة الوسطى .
ولقد حاز ملوك وملكات الأسرة الثانية عشرة شهرة عالمية فى ميادين السياسة والحرب والثقافة والحضارة والدين ، مثل "أحمس" بطل التحرير, " امنحوتب الأول" العادل الذى أصدر قانونا بمنع السخرة وبوضع المعايير العادلة للأجور والحوافز, و"تحتمس الأول" المحارب الذى وسع الحدود المصرية شمالا وجنوبا ونشر التعليم وتوسع فى فتح المناجـم وصناعـة التعديـن ، و " تحتمس الثاني" و" تحتمس الثالث" الإمبراطور صاحب العبقرية العسكرية الفذة وأول فاتح عظيم فى تاريخ العالم , و " تحتمس الرابع" الدبلوماسي الذى كان أول من اهتم بتدوين وتسجيل المعاهدات الدولية , و"امنحوتب الثالث" أغنى ملك فى العالم القديم والذي فتح المدارس " بيوت الحياة" لنشر التعليم والفنون التشكيلية والتطبيقية ، و"إخناتون" أول الموحدين وأول ملك فى تاريخ الإنسانية نادى بوحدانية الله خالق كل شـــــئ , و" توت عنخ آمون" الذى حاز شهرة فى العالم المعاصر, ومن أشـهـر ملـكات هذه الأسرة عـلى سبـيـل المـثـال المـلـكـة " اياح حتب" زوجـــة الـــمــلك " سقنن رع" ، والـــمــلــكــة " أحمس نفرتارى " زوجة أحمس الأول ، والملكة " تى" بنت الشعب وزوجة امنحوتب الثالث وأم إخناتون ، والملكة " نفرتيتى" زوجة " إخناتون" والملكة العظيمة "حتشبسوت" التي حكمت مصر قرابة عشرين عاما وبلغت مصر فى عهدها أعلى قمة فى الحضارة والعمارة والتجارة الدولية ، اما بخصوص انظمة الحكم فقد تنازل الفراعنة عن فكرة الوهية البشر بل نصبوا انفسهم ملوكا من البشر وهم عباد لله شانهم شان عامة الناس ، وعلى هذا الاساس نشأت طبقة من اعيان القوم كان لها الفضل في المشاركة في الحكم من خلال ما تقديم المشورة للملك بشأن السياسة الخارجية وامور الحرب والضرائب وما الى ذلك ، الا ان عملية المشاركة لم ترق الى تأسيس مجلسا للشيوخ كالذي حصل مع ابناء وادي الرافدين ، بل بقيت السلطات بيد لملك وهو وحده وليس بمعية الكاهن يتخذ القرارات الهامة لمصلحة البلد .
ولم يدم حكم الاسر التي تأسست على تيار معرفة الله الا مائة ونيف من السنين ، فقد ضعفت الدولة المصرية بسبب ضعف ملوكها وتقاتلهم على عرش مصر من جهة استعادة الكهان لقوتهم ونفوذهم من جهة اخرى ، الامر الذي مهد لغزو الهكسوس .
ويبدأ عهد الدولة الفرعونية الحديثة بعد أن طرد "احمس" الملك الثائر الهكسوس سنة 1571 ق . م وتم له الامر بعد ان قضى على ثورات النوبيين جنوباً واتجه الى الاصلاح الداخلى فى البلاد واهتم بإنشاء جيش عامل منظم وسلحه بكل الأسلحة المعروفة فى ذلك الوقت وزوده بالعجلات الحربية، ويُعد رمسيس الثانى من أشهر ملوك هذه الدولة وتعتبر حروبه آخر المجهودات التى بذلها ملوك الدولة الحديثة فى سبيل المحافظة على الوحدة وقد انتهت خصومته مع ملك الحيثيين بتوقيع معاهدة عدم اعتداء بين الطرفين بعد معركة قادش ، وتُعد هذه المعاهدة أول معاهدة سلام فى التاريخ واصبحت مصر قوة كبرى ، وصارت بذلك امبراطورية عظيمة مترامية الأطراف .
والملاحظ ان الحكم عاد الى سيرته الاولى في عهد رمسيس لرابع ، اذ نصب هذا الفرعون نفسه الها واعانه على ذلك الكهان وكان كبيرهم " هامان " الذي اصبح فيما بعد الوزير المتصرف بشؤون الامبراطورية الفرعونية ، وقد حكم الفرعون مصر على اساس انه الاله المشرع للقوانين وهو في ذات الوقت المنفذ لها ، وتحكي لنا احداث قصة نبي الله موسى " عليه وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام " كيف ان كلمة فرعون هي الفصل الذي لا جدال معه ، فبمجرد ان نقل نفسه الى الالوهية اصبح واجب الطاعة من قبل عبيده المصريين ، فكانت على سبيل المثال ارادته بان يجعل من الشعب المصري طبقات يدني ذوي القربى والولاء فيجعل بعضهم مسلط على بعض ، ومن ذلك ايضا ما فعل ببني اسرائيل الذين لم تنسجم معتقداتهم بعبادة الله وحده مع ما يصبوا اليه فجعلهم عبيدا بعد ان كانوا احرارا ، واعمل فيهم السيف وسبى نساءهم وقتل صبيانهم ، ونكل بهم فكان كما وصف القرآن الكريم انه أي الفرعون علا في الارض وطغى ، من خلال قصة نبي الله موسى يظهر ان نمط الحكم كان قائما في هذا العهد على وجود مؤسسة سياسية على رأسها الفرعون ثم يعضده في الحكم الكاهن الاكبر ، وهو في ذات الوقت المشرع للقوانين ، وهو القائد للجيش ، وهذا في العرف السياسي الحديث يعد حكما مطلقا ، لا يتشاطر فيه مع احد من الرعية ، وكيف يملي الرعية " العباد " على الفرعون " الاله " ما يفعل وما لا يفعل ، بل الحكم هنا قائم على وجوب الطاعة المطلقة وتحكي قصة موسى نهاية الطاغوت الذي لم تعرف الحضارات مثله ، فقد مات غرقا ولا يزال جثمانه في احد المتاحف المصرية ، ومن بعد الفرعون لم تدم الحضارة المصرية القديمة طويلا فقد اتى العصر الذي فيه فصل الختام في التاريخ الفرعوني اذ تعرضت مصر منذ حكم الأسرة 21 وحتى الأسرة 28 لاحتلال كل من الآشوريين عام 670 ق.م ، ثم الفرس حتى انتهى حكم الفراعنة مع الأسرة الــ 30 ودخول الإسكندر الأكبر مصرفبدأ عندئذ حكم الاغريق ومن ثم الرومان الذين حكموا مصر حتى زمن فتحها في عصر صدر الاسلام .
عهد الهكسوس :
خلال عصر الأسرة الثانية عشرة حوالي سنة 1725 ق . م قامت القبائل الرعوية التي كانت تسكن في فلسطين وشمال الجزيرة العربية و أطلق عليها أسم "الهكسوس" بالإغارة على مصر واجتياح اراضيها وقد تم لهم الامر ، اذ استطاعوا حكم مصر لمائة من السنين ، واسسوا نظاما للحكم يقوم على وجود الملك ، يعضده رئيس كبار الموظفين وهو العزيز ، ويسانده على سبيل الستشارة الملأ من الهكسوس ، وهم علية القوم واشرافهم ، وتحكي لنا وقائع قصة يوسف ان الهكسوس كانوا اقواما ينفتحون نحو الافراد الذين يمتلكون المهارات والخبرات في مختلف شؤون الحياة ، بل في اهمها ايضا ، من ذلك ان اصبح يوسف هو عزيز مصر وهو من قوم غرباء عن المصريين والهكسوس ، الامر الذي مهد لقيام حكومة قائمة على ميزان الاعتدال ، فاصلح النظام الاداري واسس لقضاء عادل ، وبدت بوادر المشاركة في الحكم تظهر من خلال توسيع نطاق الاستشارة بين الملأ واشراك المصريين بالرأي ، لكن ذلك لم يدم طويلا فبعد حوالي 120 عام استرجع المصريون الحكم بعد ان طردوا الهكسوس عام 1571 ق.م.
ج . الحضارة الاغريقية :