من جميل الأخلاق التي خلَّقنا بها الإسلام أن نلتمسَ لأخينا الأعذار، فقد ورد في الأثر: التمس لأخيك عُذرًا، وما هذا العنوانُ الذي اخترناه لهذه الكلمة إلا شطرٌ تناهَبَه الشعراء وضمَّنوه قصائدَهم، ولعل أقدمهم صريع الغواني مسلم بن الوليد الأنصاري (ت 208هـ) حيثُ يقول:
لعلَّ له عُذرًا وأنتَ تلومُ
وكم لائمٍ قد لامَ وهوَ مُليمُ
وتبعه دِعبل الخُزاعي (ت 246هـ) حيثُ يقول:
تأنَّ ولا تعجَل بلَومِكَ صاحِبا
لعلَّ له عُذرًا وأنتَ تلومُ
ثم تلاه أبوالعلاء المعرِّي (ت 429هـ) فقال:
لكَ اللهُ لا تذْعَر وَليًّا بغَضبَةٍ
لعلَّ له عُذرًا وأنتَ تلومُ
إلى أن جاء أمير الشعراء فصاغه صياغة جديدة أسبغ فيها عليه من روحه، وأضفى عليه مسحة بديعة، إذ قال في رائعته الميمية "ريم على القاع بين البان والعلم":
رُزِقتَ أَسمَحَ ما في الناسِ مِن خُلُقٍ
إِذا رُزِقتَ اِلتِماسَ العُذرِ في الشِيَمِ
والناظر في كتاب الله يقف على عشرات الآيات التي تدلُّ على سماحة الإسلام وسَعَة صدره حتى مع الكفَّار، بل مع الأعداء الذين يُناصبونه العداء.
اقرأ معي، إن شئتَ، خطابه للكفار في سورة "الكافرون": {قُل يأيها الكافِرون، لا أَعبُدُ ما تَعبُدون، ولا أنتُم عابِدونَ ما أَعبُد...} فمَبلغُ ما وصل إليه التباعُد والتنافُر معهم أن قال لهم: {لَكُم دينُكُم ولِيَ دِين}، واقرأ معي، إن شئتَ، قوله في سورة سبأ الآية الـ24 {وإنَّا أو إيَّاكُم لَعلى هُدًى أَو في ضَلالٍ مُبين}، تَعجَب لهذه السماحَة التي وصلت إلى حدِّ التسوية التامَّة والحيدة التامَّة في المناظرة والمناقشة والجدَل.
أليس عَجيبًا بعد ذلك أن يَضيقَ صدرُ المؤمن بأخيه المؤمن، فيُناصبَه العداء لأدنى ملابسة وأقلِّ مخالفة في الفَرعيات والفَرضيات والأمور الثانوية؟ مع أن أسلافَنا علَّمونا أن الخلافَ في الرأي لا يُفسد للودِّ قضية! ومع أن علماءنا ضربوا لنا أروعَ الأمثلة في التسامح والتوادِّ والتآلف، وكان رائدهم في ذلك تلك المقولَة الرائعة: î"لنتعاون فيما اتَّفقنا عليه وليَعذر بعضُنا بعضًا فيما اختلَفنا فيه" وقد أُثر عنهُم في ذلك الكثير من مثل قولهم: "خُذ ما صَفا ودَع ما كَدَر"، وقول الشاعر:
خُذ من زَمانِكَ ما صَفا
ودع الذي فيه الكدر
وقول ا لآخَر:
لعَمرُكَ ما ضاقَت بلادٌ بأَهلِها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
والذي لا ينقضي منه العَجَب أن نختلفَ اليوم في أشياءَ انقضى عهدُها وطال الزمان بها، ولسنا مكلَّفين بأن نحملَ تبعتها، فالله سبحانه يقول: {تِلكَ أمةٌ قد خلَت لها ما كَسَبَت ولكُم ما كَسَبتُم ولا تُسأَلونَ عمَّا كانوا يَعمَلون}(البقرة: 134)، فلمَ نختلف اليومَ في أُناس كانوا قد اختَلفوا، وقد أفضَوا إلى ربِّهم سبحانه، وهو الأعلمُ بهم؟ وماذا يَفيدنا أن ننتصر لزيدٍ منهم أو عَمرو؟ أليست {كلُّ نفسٍ بما كَسَبَت رَهينَة}؟ أَوَلَم يقُل ربنا سبحانه: {ولا تَزرُ وازِرَةٌ وُزرَ أُخْرى} فلم نتحمَّلُ وزرَ الآخرين؟ أليست أوزارُنا ثقيلةً؟ فلمَ نزيدُها ثقلًا؟
وإذا أصرَّ نفرٌ منَّا على تحمُّل أوزار الآخرين فلمَ نتحمَّل ذلك معهم؟ أليس الأجدر بنا أن ندعَهم وشأنَهم وأن نصونَ أنفسَنا ونترفَّعَ عما وقَعوا فيه، وأن نُحجمَ عما تورَّطوا فيه؟.
ورحم الله القائل في هذا: "تلك فتنةٌ عصمَ الله منها سُيوفَنا أفَلا نَعصِمُ منها أَلسِنَتَنا؟".
ومن المؤسف حقًّا ألا يقتصرَ أمرُ التنافُر والتباعُد وضيق العَطَن على المذاهب والطوائف والفئات، وإنما يعدوها ليفرِّق بين المرء وأخيه، والصديق وصديقه، والحِبِّ وحبيبه، ولو رحنا نبحث عن علَّة ذلك كلِّه لوجدناها تكمُن في سوء الظنِّ وعدم التماس العُذر:
إذا ساءَ فعلُ المَرءِ ساءت ظُنونُه
وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى مُحبِّيهِ بقَول عُداتِه
وأصبح في ليل من الشك مظلم
والحق أن الخاسرَ الأكبر بين الأصدقاء والإخوان هو ذاكَ الذي لا يأخذُ نفسه بالتماس العُذر لأصدقائه وإخوانه وحسن الظنِّ بهم ، فأيها المسلمُ وسِّع من صدرك، وحسِّن من خلقك، مُؤتَسيًا بخير الخلق في سيرتك، و ليكُن شعارك دائمًا عندما تجد في صديقك ما لا يَروق لك: لعلَّ له عُذرًا وأنتَ تلومُ.
اتمنى ان تكون لدينا جميعا هذه الصفه وهي صفه التسامح وان نعذر الناس لاننا يوما سنحتاج اكيد ليعذرونا
حبي لكم ومودتي
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] هبة الرحمن